جنون التجسس الأمريكي
عناية ناصر
وسّعت أجهزة الاستخبارات الأمريكية منذ فترة طويلة مجسات تنصتها لتصل إلى الأمم المتحدة، الأمر الذي يؤكد أن جنون تجسّس واشنطن ليس له حدود. وقد أعربت الأمم المتحدة وفقاً للمتحدث باسم الأمم المتحدة ستيفان دوجاريك عن مخاوفها بأن الولايات المتحدة تجسّست على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، ومسؤولين كبار آخرين في الأمم المتحدة، بحسب ما أفادت به تقارير إعلامية.
وفي هذا الخصوص، قال دوجاريك: “لقد أوضحنا أن مثل هذه الإجراءات لا تتماشى مع التزامات الولايات المتحدة كما هو مذكور في ميثاق الأمم المتحدة واتفاقية امتيازات وحصانات الأمم المتحدة”.
وفي السياق ذاته، ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” أن واشنطن كانت تراقب غوتيريش عن كثب، وأن بعض الوثائق السرية المسربة تحتوي على المحادثات الخاصة التي أجراها الأمين العام للأمم المتحدة مع نائبته أمينة محمد. وزعمت شبكة “سي إن إن” بأن الأمم المتحدة أصدرت “توبيخاً نادراً” للولايات المتحدة بشأن الوثائق المسربة.
إن مثل هذه “الندرة”، إلى جانب القبول الضمني في موقف الأمين العام للأمم المتحدة، تثبت حقيقة مروعة واحدة، هي أن تجسّس واشنطن أصبح مألوفاً لدرجة أن مسؤولي الأمم المتحدة لا يمكنهم فعل شيء حيال ذلك، ولاسيما وسط تفوق واشنطن في تكنولوجيا المعلومات، والسلوك غير القانوني والمدمّر في ظل السيكولوجيا المهيمنة.
لكن ما هو غير نادر بالتأكيد التقارير والوثائق التي تكشف عن مراقبة الولايات المتحدة للأمم المتحدة، حيث أشارت صحيفة “الغارديان”، في مقال نشر عام 2010، إلى أن الدبلوماسيين الأمريكيين تلقوا تعليمات بالتجسّس على قادة الأمم المتحدة، بمن فيهم الأمين العام آنذاك بان كي مون، وممثلي الأعضاء الأربعة الآخرين الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. ووفقاً لبعض الوثائق السرية التي تمّ تسريبها في عام 2013، كانت وكالة الأمن القومي الأمريكية تتنصت على مؤتمرات الفيديو لدبلوماسيي الأمم المتحدة.
أدان مسؤولو الأمم المتحدة بعضاً من هذه الحوادث، لكن من الواضح أن واشنطن ليس لديها أية نية لوقف تجسّسها، حيث قال الخبير العسكري الصيني وانغ تشيانغ إنه بالمقارنة مع الدول ذات السيادة، فإن المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة لا تتمتع بأي سيادة على الإطلاق، ما يضع الأمم المتحدة في موقف حرج أمام المراقبة الأمريكية، وفي هذه الحالة ليس هناك أية فائدة تُرجى بالنسبة للمؤسسة في حال تقديم أي شكاوى.
على مرّ السنين، زادت واشنطن من تنصتها على الآخرين بدافع ما يُسمّى مخاوف بشأن أمنها القومي. فمن وجهة نظرها، يمكن إجراء التجسّس بغضّ النظر عن الهدف والنية طالما كان ذلك في مصلحة الجيش الأمريكي، ووكالة الاستخبارات الأمريكية.
لقد أصبحت وكالات الاستخبارات الأمريكية منذ فترة طويلة سرطاناً بالنسبة للمجتمع الدولي، فهي تخدم الهيمنة الأمريكية من خلال استخدام المعلومات الاستخباراتية لقمع ما يُسمّى الخصوم والأعداء، بالإضافة إلى أنها تستخدم المعلومات التي تمّ الحصول عليها لابتزاز دول أخرى سياسياً، وهي تتصرف مثل المافيا دون أي حدود أخلاقية.
وقال وانغ: طالما أن دولة ما تسعى إلى تحقيق أمن مشترك وشامل وتعاوني ومستدام فلا داعي للتجسّس على الآخرين، مضيفاً أن لا أحد سوى الولايات المتحدة ستنخرط في طرق خبيثة للحصول على معلومات.
في الوقت الحالي، من الصعب من الناحية الفنية منع الولايات المتحدة من التنصت، حيث لا تزال واشنطن تهيمن بلا شك على قطاع تكنولوجيا المعلومات في العالم، فالإطار الرئيسي لنظام المعلومات العالمي، والعديد من منتجات تكنولوجيا المعلومات الأكثر شهرة تأتي من الولايات المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، كانت الولايات المتحدة تستهدف الخدمات والمنتجات التي تقدمها شركات من دول أخرى، بما في ذلك عملاق التكنولوجيا الصيني “هواوي”، وتحثّ الحلفاء على استبدالهم بخيارات “أكثر أماناً”، وهي ترتبط بها في الواقع ارتباطاً وثيقاً. ونظراً لأن دول العالم قد تبنّت التكنولوجيا الأمريكية على نطاق واسع، فكيف يمكنها الهروب من مصير مراقبتها من قبل واشنطن؟.
يعتقد الخبير العسكري الصيني سونغ زونغبينغ، أن أول خطوة مهمة للأشخاص الراغبين في التخلص من التنصت الأمريكي هي اختيار المعدات والأجهزة التي لا تعتمد على التكنولوجيا الأساسية للولايات المتحدة. وأشار في الوقت نفسه إلى أن المجتمع الدولي يجب ألا يسمح لإمبراطورية المراقبة الأمريكية بالمرور دون رادع. وبدلاً من ذلك، يتعيّن عليه اتخاذ موقف موحد لمقاومة مثل هذا السلوك المهيمن من قبل واشنطن. وقال سونغ: “إذا تصرفت الدول بشكل غير مبالٍ تجاه التجسّس الأمريكي، كما يفعل البعض، فسوف تصبح حتماً بيادق وشركاء للولايات المتحدة”.
ومع ذلك، تكمن جذور هذه المشكلة في الهيمنة الأمريكية، ولا يمكن التخلص من نظام المراقبة الأمريكية إلا عندما ينهار نظام الهيمنة في البلاد تماماً، لكن واشنطن معتادة على التصرف كقوة مهيمنة وقحة لدرجة أن تغيير عقليتها وسلوكها يكاد يكون مستحيلاً. وإذا أردنا قتل أخطبوط تجسّس واشنطن، فهناك حاجة للقيام بالمزيد من الإجراءات للتخلّص من الهيمنة الأمريكية والقضاء عليها.