الأجندة الأنغلو – أمريكية في السودان
هيفاء علي
نفّذ الجيش الأمريكي، بناءً على أوامر بايدن، عملية إجلاء لموظفين حكوميين من الخرطوم، حيث كان نحو 16000 أمريكي في السودان، وكانت السفارة الأمريكية في الخرطوم مكتظة بالموظفين، مثلما هو الحال في كييف، الأمر الذي لا يبرّره اتساع وحجم العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والسودان، ما أدى إلى تكهنات بأنها كانت موقعاً استخباراتياً رئيسياً.
تغيّر التحالف الأمريكي – السعودي بشكل عميق في ظل رئاسة بايدن، وبدأت الرياض بتعزيز علاقاتها مع موسكو وبكين، ما دفع القوى الغربية لاستكشاف الفرصة لمزيد من التنسيق والمشاركة البناءة مباشرة مع جنرالات الخرطوم، والاستفادة من جهودهم ومواردهم جنباً إلى جنب مع دول الخليج التي تعيد ضبط مشاركتها في القرن الأفريقي. باختصار، فإن المفهوم الغربي للاستقرار والتنمية المستدامة في السودان، من منظور أيديولوجية المحافظين الجدد الذي يتغلغل في إدارة بايدن، هو في قلب الأزمة السياسية الداخلية المتفاقمة في السودان، منذ عام 2019، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان، والتشكيلات المسلحة المنضوية تحت ما يُسمّى “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو.
وهكذا أدت التسويات السياسية غير الناضجة، وغير الواقعية، التي روّجت لها الديمقراطيات الليبرالية الغربية إلى تأجيج الاقتتال العسكري الداخلي، واقتصرت التعاملات الأنغلو – أمريكية إلى حدّ كبير على المجلس العسكري الانتقالي، و”قوى الحرية والتغيير”، وهو تحالف ناشئ من مدنيين سودانيين مختارين بعناية، وجماعات المتمردة، مثل رابطة المهنيين السودانيين، و”لا لاضطهاد المرأة”، والذين لم يمثلوا بأي حال القوات الوطنية السودانية.
وعليه، ليس من المستغرب أن محاولات المحافظين الجدد هذه لفرض أنظمة غريبة على حضارة قديمة كان مصيرها الفشل، في حين أن الصورة التي تنقلها وسائل الإعلام الغربية عن الأزمة الحالية في السودان، وتتجلى في صراع داخل المؤسسة العسكرية، هي تبسيط مفرط، ومحاولة للتستر على انغماس الأيدي الغربية فيه، إذ يبدو جلياً أنه اختزال لهذه الأزمة في صراع شخصي بين الجنرالين برهان وحميدتي اللذين كانا صديقين لفترة طويلة جداً، ولا يمكن حلّ الأزمة إلا من خلال “حل أمني”، وهو ما يعني عملية تكامل تشمل قوات الدعم السريع بشكل مناسب كشريك سياسي في الحكم، وليس فقط كقوة عسكرية تابعة للجيش.
يُذكر أن السودان بلد شاسع يتسم بتنوع عرقي وإقليمي كبير يقطنه ما يقرب من 400 إلى 500 قبيلة، ويعتمد استقرار البلاد بشكل أساسي على نموذج أمثل للتفاعل بين النخب والعشائر.
إن الدافع الأساسي للقوات الخاصة في الصراع الحالي هو أملها في زيادة أهميتها في العملية السياسية الداخلية للبلاد، والصراع الحالي ليس حول الوصول إلى مورد عسكري، ولكن حول السيطرة على الاقتصاد وتوزيع السلطة. علاوة على ذلك، ساهمت الإدارة الخرقاء لتشكيل الحكومة الجديدة من قبل ممثل الأمم المتحدة، فولكر بيرثيس، إلى حدّ كبير في الأزمة الحالية، لجهة أن بيرثيس، وهو مفكر ألماني أضرمته أيديولوجية المحافظين الجدد، لم يكن الرجل المناسب لتنفيذ مثل هذه المهمّة الدقيقة. وهذا مثال آخر معبّر عن إرث الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش، الذي فضل إرسال الغربيين إلى النقاط الساخنة، حيث تكون المصالح الجيوسياسية الغربية على المحك.
لقد أظهر اجتماع الأمم المتحدة في 15 آذار الماضي أن بيرثيس المتحمّس كان بعيداً عن الواقع من خلال التسرع في نقل السلطة من الإدارة العسكرية إلى المدنية بدلاً من التركيز على المساعدة التدريبية للحكومة، وتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد، ما أدى إلى تصعيد المواجهة بين الأطراف المتحاربة. النقطة الإيجابية الوحيدة هي أنه لا توجد مؤشرات حتى الآن على التطرف في هذا الصراع لأسباب دينية، ولا يوجد فراغ في السلطة يمكن أن تستغله جماعة إرهابية. وفي الوقت عينه، فإن وساطة القوى الخارجية من قبل دول المنطقة ضرورية، ويمكن أن تساهم في حلّ الصراع. ومع ذلك، قد لا تأتي التسوية الشاملة في القريب العاجل، لأن التناقضات الداخلية التي تراكمت مع مرور الوقت تتطلب تنازلات، وحتى الآن على الأقل، فإن الأطراف ليست مستعدة لقبولها.
في ظلّ المناخ الحالي لحلّ النزاعات الذي يحيط بالسياسات الإقليمية في غرب آسيا والخليج على وجه الخصوص، لا توجد شروط موضوعية لتصعيد الصراع إلى النطاق الإقليمي. فقد اتخذت الدول الرئيسية المرتبطة بالفصائل المتحاربة مبادرات لحفظ السلام، وموقف روسيا متوازن، فخلال زيارته للسودان التقى سيرغي لافروف بقادة المعسكرين المتعارضين، ذلك أن روسيا من أصحاب المصلحة في استقرار السودان، والأمر نفسه ينسحب على الصين، حيث سيعمل الشركاء الخارجيون الآخرون، وخاصة روسيا والصين، على منع نشوب صراع مفتوح طويل الأمد.
في هذا الصدد، فإن ديون السودان الخارجية تقلّ عن 60 مليار دولار، معظمها على عاتق الصين وروسيا. ومع ذلك، لا تزال الأجندة الأنغلو- أمريكية مشكوكاً فيها، وهدفها هو تدويل الأزمة، وإذكاء التنافس بين القوى العظمى في الوضع السوداني، وخلق ذرائع للتدخل الغربي، ولكن أي محاولة لإحياء جمر “الربيع العربي” سيكون لها عواقب بعيدة المدى على الأمن والاستقرار الإقليميين.