الولايات المتحدة تبعد أوكرانيا عن السلام
عناية ناصر
لم يعد خافياً على المجتمع الدولي حقيقة تورّط الولايات المتحدة بشكل غير مباشر في حرب أوكرانيا، فقد كان من الممكن أن يعتقد المرء قبل التسريبات الأخيرة لوثائق البنتاغون السرية أن تورطها يقتصر على شحنات الأسلحة، وأن الباقي مسألة تأويل، لكن من الواضح الآن أن الولايات المتحدة لا تمنح كييف الأسلحة وتزوّد الجيش الأوكراني بالمعلومات الاستخباراتية فقط، بل تشارك أيضاً بنشاط في التخطيط، وحتى في توجيه العمليات القتالية.
لكن المسألة الأكثر إثارة من ذلك كله هي كيف تنظر واشنطن إلى الصراع من منظور مكاسبها الخاصة، فهذا الأمر له قيمة حقيقية لفهمنا للدول التي تريد حقاً السلام في أوكرانيا، والتي تعتقد أن الكوارث المستمرة هي استراتيجية مفيدة؟.
من خلال إلقاء نظرة على الأرقام، نرى أنه في عام 2022، كان الدولار الأمريكي عند أعلى مستوى له في 20 عاماً مقابل العملات الرئيسية الأخرى. وبعد دخول دول الاتحاد الأوروبي في صراع مع روسيا، تراجعت إمدادات الغاز الروسي لسوق الاتحاد الأوروبي بنسبة 66 في المائة، وخاصة بعد الهجوم الذي دمّر أحد خطوط أنابيب الغاز الرئيسية بين روسيا وألمانيا. في الوقت نفسه، بلغت إمدادات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا من الولايات المتحدة ودول أخرى 35 في المائة من إجمالي استهلاك الغاز في الاقتصادات الأوروبية. كما زادت الولايات المتحدة صادراتها من الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا خلال عام 2022 إلى 117.4 مليون متر مكعب، حيث بلغت صادراتها 47.8 مليون متر مكعب في عام 2021. وبالنسبة للولايات المتحدة، تعدّ هذه قفزة هائلة في إمدادات الطاقة، التي بدأت في تصدير الغاز الطبيعي المسال فقط في عام 2016، وكانت تتوسّع بشكل منهجي في الاتحاد الأوروبي، مما يمنع إمدادات الغاز من روسيا.
لقد جعلت هذه الشحنات الولايات المتحدة أكبر مورّد للغاز الطبيعي المسال في العالم. في الوقت نفسه، كان لارتفاع الأسعار الناجم عن الصراع في أوروبا عواقب وخيمة على البلدان النامية الأكثر فقراً، فبينما ترفض أوروبا الغاز والنفط من روسيا، ترتفع الأسعار هناك، ما يجعل الطاقة باهظة الثمن بالنسبة لأفقر دول العالم، وهذا يؤدي مباشرة إلى زيادة الجوع. كما أدى ارتفاع أسعار الطاقة إلى تقليص إنتاج ما تحتاجه الدول الأكثر فقراً، ففي عام 2022، تمّ إغلاق 70 في المائة من إنتاج الأسمدة في الاتحاد الأوروبي، وهذا يعني أن الولايات المتحدة تستفيد من الأزمة، بينما أفقر البلدان ليس لديها وسيلة للزراعة، خاصة وأن الأزمة التي خلقتها واشنطن في أوروبا قد أضرت بالخدمات اللوجستية العالمية. بعبارة أخرى، يضرّ الصراع الذي أحدثته الولايات المتحدة بالمجتمع الدولي بأسره. وبالإضافة إلى ذلك فقد أظهرت تسريبات البنتاغون أن واشنطن لا تفكر أبداً في مثل هذه العواقب في تجسيد لصورة فيها سياسة قوة عظمى طفيلية تماماً، وليس من قبيل المصادفة أن تكون استجابة الولايات المتحدة لمقترحات السلام الأخيرة التي قدمتها الصين سلبية، وبناءً على ذلك من الصعب الحديث عن السلام مع شخص لا يخفي حقيقة أنه يستفيد من الحرب. والآن حتى أوروبا نفسها تراقب سلوك الولايات المتحدة وتصرفاتها بحذر، وتحاول إقامة حوار مع الصين، كما يحاول أن يفعل الرئيس الفرنسي.
إن الموقف الجيوسياسي للولايات المتحدة من هذا القبيل يجعلها تنظر إلى معظم مشكلات العالم الحديث من وجهة نظر مصالحها الخاصة بدلاً من منظور أمنها، وهذا يجعل من الصعوبة بمكان التحاور مع واشنطن، كما أن التفاعل معها من قبل الدول الأخرى هو عمل محفوف بالمخاطر. ويمكن ملاحظة ذلك من خلال المصائب التي يعيشها شعب أوكرانيا حالياً، والتي ليس لها أي تأثير على أمن الولايات المتحدة. وهذا سيكون واقع الحال إذا نشأ صراع في مناطق أخرى تفصلها المحيطات عن الولايات المتحدة.
لذلك، من الخطير والغريب أن تربط دول أخرى مصيرها بالمناورات الدبلوماسية الأمريكية، ذلك أن الجغرافيا لا تسمح لواشنطن أن تنظر إلى مشكلات الآخرين على أنها مشكلاتها. وربما يعود تغيير هذا الوضع إلى المجتمع الدولي ككل. ولتحقيق ذلك تحتاج دول العالم الآن إلى أن تُظهر للولايات المتحدة أن الموقف الاستهلاكي تجاه الأمن الدولي والتنمية هو استراتيجية لن تؤدي إلا إلى عزل أمريكا نفسها في المستقبل، وكلما جاء هذا الفهم مبكراً، كلما كان ذلك أفضل للجميع.