الأدب والتّاريخ وعلاقتهما على طاولة جامعة دمشق
نجوى صليبه
“طوال سنوات عملي في التّدريس الجامعي، كنت أدرّس طلّاب السّنة الرّابعة، أي طلّاب على وشك التّخرّج وبداية حياتهم المهنية والاجتماعية، وعلى الرّغم من ذلك يجهل كثير منهم أموراً بدهيةً كأسماء بعض المفكّرين والأدباء الذين لهم دورهم في تاريخ وطننا، فعشرات الآلاف من الطلاب لا علاقة لهم بتاريخ أمّتهم وحضارتها ولا يوجد ما يربطهم فيها سوى مقرر الثّقافة القومية، وليس في الجامعة ما يؤدّي إلى بناء هوية الطّالب وشعوره بالانتماء”، بهذا الهمّ الكبير بدأ الدّكتور عبد الرّحمن بيطار مشاركته في الجلسة الأولى من فعاليات اليوم الثّاني من مؤتمر “اليوم العلمي الأوّل لكلية الآداب والعلوم الإنسانية” والتي كانت تحت عنوان: “بين الأدب والتّاريخ”.
ويضيف: أتساءل عن العلاقة بين الأدب والتّاريخ لدى طلّاب برأيهم التّاريخ ليس إلّا معلومات عن الماضي لا علاقة لها بالحاضر ولا تفيد بالمستقبل، وذلك لأنّ المعلومات التي تقدّم في المدارس عبارة عن أكوام من تفاصيل وآراء وأخبار عن إمبراطوريات بائدة وبأسلوب إنشائي، وعندما نصل إلى الحديث عن أنفسنا نجد ما يقدّم فيها قليل، كما أنّ الطّالب لا يتعلّم في المدرسة كيف يُعرّف مصطلحاً ما أو يحلله، فينتهي من دراسته المدرسية وهو لا يعرف شيئاً عن تاريخه، وفي المرحلة الجامعية ـ الرّسمية والخاصّة ـ يعزف عن قراءة كتبه حتّى ويكتفي بالملّخصات، لذا من الصّعوبة إقناعه بأنّ دراسة التّاريخ عمل علمي وليس أدبي وله طرق ومنهجية وأصول وأساليب وبحث وتحليل للوصول إلى نتائج لا تكون قطعية إن لم تكن الدّلائل واضحة.
وتحت عنوان “الشّعر في عصر المماليك وأثره في كتابة التّاريخ”، تحدّث الدّكتور عمار النّهار حول دور الشّعر في التّأريخ، مبيناً: هناك ندرة في الأبحاث التي تتحدّث عن الشّعر كمصدرٍ تاريخي، وبشكل عام الشّعر في عصر المماليك كثير جداً، لكنّه كان تقليداً أكثر منه ابتكاراً، أي كتبه متعلّمون عاديون لا شعراء محترفون، ويمكننا رصد ثلاثة تيارات واضحة من حيث الصّياغة والبناء الفني هي: الشّعر التّقليدي والبديعي والشّعبي، وانعكس الشّعر في هذا العصر على ملامح الحياة كلّها، ونجد أمثلةً واضحةً من نقد الحاكم بشكلٍ غير مباشر ونقد ظواهر وحالات في المجتمع، وهو مصدر مهمّ جداً في التّأريخ وربّما لا نستطيع إيجاد مادّة علمية عن قضايا المجتمع حينها إلّا من خلاله.
ويوافق الدّكتور فاروق اسليم الدّكتور النّهار في أنّ الشّعر الجاهلي كان فعلاً مصدراً تاريخياً، أمّا فيما عدا ذلك فالوضع مختلف، ويبيّن: عنوان مشاركتي “مقاربة الواقع بين الشّعر والتّاريخ” وهذا يعني أنّ الشّعر لا يعبّر عن الواقع وهذه إشكالية موجودة عبر التّاريخ، فالتّاريخ لا يعبّر عن حقيقة ما يحدث وإنّما يقارب الواقع، لأنّ لدى أي مؤرّخ مرجعية يؤرّخ على أساسها، أي أنّه ليس حيادياً حيادية مطلقة، وتالياً حين أنظر إلى التّاريخ على أنّه سردٌ للأحداث تتضاءل قيمة الشّعر التّاريخية جدّاً، لكن حين أنظر إليه على أنّه قراءة للحياة بأشكالها المختلفة يصبح للشّعر قيمة أخرى، وحين أتحدّث عن الشّعر القديم فأنا أمام مقاربة أكثر تاريخية من مقاربة الشّعر المعاصر للتّاريخ، فالشّعر القديم وثيقة تاريخية ولاسيما الجاهلي وهذا أمر محسوم فالشّعر ديوان العرب، والمؤرّخ جواد العلي يفرد جزءاً كبيراً من موسوعته للشّعر الجاهلي، وهناك أحداث في التّاريخ لا يمكن معرفتها إلّا من خلال هذا الشّعر كتوزّع القبائل وأنسابها، لكن الشّعر المعاصر يقارب الواقع الثّقافي حين يمتلك مشروعية انتشاره بين النّاس، وعلى الرّغم من ذلك يبقى للشّعر قيمته التّاريخية من جهة أنّ الشّعر الذي يمتلك شعبيةً وقبولاً جماهيرياً هو وفق وعينا يمثّل حالة ثقافية ويجب أن يمتلك مشروعية انتشاره بين النّاس، أقول إنّه يمثّل ضمير النّاس وثقافتهم، وهذا لا أجده عند من يكتب الأحداث ويقرأها، فنحن إلى اليوم نعتدّ بشعر أحمد شوقي وسميح القاسم ومحمود درويش.
ومن العناصر أو الجوانب التّاريخية التي يوثّقها الأدب التّراث المادّي واللامادي المشترك بين الشّعوب والبلدان، ويبيّن الدّكتور صادق رمضاني كل افزاني بعض هذه الجوانب المشتركة بين التّراثين الإيراني والسّوري بالقول: نتحدّث هنا عن آلاف السّنين من العلم والمعرفة، وهناك الكثير من المصادر العربية والإيرانية التي كتبت حول هذا الموضوع، وأختصر المشترك بيينا باللغة الآرامية والعادات والتّقاليد والنّشاطات الاجتماعية والنّصوص والتعايش السّلمي وحرية المرأة والإنتاج المشترك في صناعة المنسوجات اليدوية والتّاريخ النّضالي المشترك والكتابات والآلات الموسيقية، ولاسيّما العود والملابس والأساطير والتّراث الذي يعزّز الهوية الفكرية والوطنية والشّعور بالانتماء، مع التّأكيد على أنّه لا يوجد حدود ثقافية بين المجتمعات فهناك فنّانون كثر تأثّروا بمجتمع ثقافي معيّن وهم بعيدون مكانياً عنه.