“التربُّص” داء خطير يفتك في مؤسسات العمل! يعكر الأجواء ويقلل جودة الأداء والعطاء!!
البعث الأسبوعية – غسان فطوم
يبدو أن العمل على خلق بيئة عمل مثالية أمر ليس بالسهل إن لم يكن مستحيلاً، فالمصالح الشخصية و”عداوة الكار” إن صح التعبير غالباً ما تجعل الموظفين يتربصون ببعضهم البعض، فالغيرة من النجاح والتميز قد تدفع بعضهم لنهج سلوكٍ جانحٍ، أو فبركة كلام يضر بزملائهم ظناً منهم أنهم يحظون على رضا الإدارة، في محاولة لإظهار أنفسهم بأنهم الأفضل والأميز بالعمل.
لا شك في أن هذا السلوك عدواني وبعيد كل البعد عن أخلاقيات العمل التي تُعرّف بأنها “مجموعة من القيم والمعايير الأخلاقية التي تتمحور حول أهمية العمل، وانعكاس هذه القيم على الرغبة في العمل من قبل الفرد، وتصميمه على الإنجاز المميز”.
سلوك عام
في حديث مع العديد من الموظفين على اختلاف مؤسساتهم ومواقعهم في العمل أجمع أغلبهم أن التربص والنميمة والحقد والحسد في بيئات العمل حالة لا يمكن نكرانها، فهي موجودة وتختلف من مؤسسة إلى أخرى، وإن كانت مخفية، وبرأيهم أن الأمر يزداد سوءاً عندما تنعدم الضوابط والعقوبات وتقل الحوافز، مما يجعل الأنانية تطغى على كل شيء وبالنتيجة تعم الفوضى في بيئة العمل ولا يتم انجاز المهام بالشكل السليم الذي يحقق الهدف المنشود.
ولم يتردد آخرون بالقول إن غياب القائد الإداري المرن والقوي بذات الوقت يساهم في ذلك، مشيرين إلى أن غياب الرقابة وعدم المحاسبة يُفسح المجال لنمو هذه الظاهرة في مؤسساتنا التي تعاني من غياب ثقافة العمل الجماعي الذي يولد الإبداع والنجاح للمؤسسة وللمجتمع بشكل عام.
الفشل والتراجع
من وجهة نظر الدكتور خليل عجمي أن “التربُّص” يتلخص في تفكير الفرد بأن مصلحته تتحقق عندما يعيق الآخرين ويمنعهم من تحقيق مصالحهم كي يبقى الرابح الوحيد، ويرفض الشراكة باعتبارها تقلل من نجاحه كي يثبت أنه الناجح الوحيد، ويعمل بمفرده مهما كان العمل ضخماً ومعقداً كي يثبت أنه القادر الوحيد!
ويؤكد الدكتور عجمي أن هذا المبدأ ليس إلا نفياً كاملاً لأي منطق نجاح وتقدم، فالنتيجة العملية لممارسة هذا المبدأ هو الفشل والتراجع على كل الأصعدة!
ويضيف: نحن كأفراد نتحمل جزء مهم من المسؤولية، لكننا نحن أنفسنا نتاج منظومتي تأهيل وعمل لم تؤهل الناس للعمل الجماعي وإنما رسخت فيهم “الفردانية” على نحو ضار، وبحسب الدكتور عجمي أن الخروج من هذه المشكلة لن يتم قبل تغيير أساليب التأهيل أولاً، وأنظمة العمل ثانياً، موضحاً أن مصالح الأفراد كل على حدة مهمة وضرورية ويجب أن تزدهر، لكن هذه المصالح الفردية تصبح أكثر رسوخاً وتوازناً ضمن مصلحة مشتركة لجماعة ينتمي إليها هؤلاء الأفراد. هذا ليس كلاماً عاطفياً، وإنما منطق رياضي برهن عليه يوماً (جون ناش)، فهل نطبق هذا الكلام في تأهيلنا لشبابنا، أو حتى في منطق عملنا؟
وصف دقيق
كلام الدكتور عجمي عبّر عن الحالة الراهنة في مجتمعنا والتي زادت تعقيداً منذ بدء سنوات الحرب التي أدت إلى صعوبة الوضع المعيشي وازدياد حالات الفساد الإداري والمالي، وهذا ما دعا البعض للتساؤل عن كيفية الخروج من هذا الوضع، وكيفية تجاوز ثقافة الحسد والكراهية، مؤكدين على أهمية العمل بروح الفريق الواحد، لأن “التربُّص” –بحسب قولهم- لن يفيد المؤسسة، وإنما يساهم في خرابها وإفلاسها مادياً وبشرياً كونها تصبح بيئة طاردة للموظفين، وخاصة الكفاءات منهم الذين لا يستطيعون العمل بهكذا أجواء “مريضة” حسب وصفهم.
وبرأي معلم اللغة الإنكليزية عدي نذير أن السبب في وجود ظاهرة التربص يعود لعدم إتباع طرق صحيحة في اختيار الموظفين عدا عن غياب التقييم للأداء، مشيراً إلى وجود مجاملة واضحة مستفزة بهذا الخصوص، الأمر الذي يُشجع الموظفين من ضعيفي النفوس على نصب الأفخاخ للإيقاع بزملائهم المجتهدين ضاربين بأخلاق العمل عرض الحائط!.
آن الأوان
وبصراحة كثرت الشكوى من أمثال هؤلاء الموظفين “العدوانيين” ويظهر ذلك في بعض المؤسسات الحكومية ذات الاحتكاك المباشر مع المواطنين، حيث يلاحظ محاربة واضحة للناجحين، وتلميع الفاشلين مما أدى إلى تراجع جودة الأداء والعطاء وظهور حالة من الإحباط عند الموظفين المبادرين المحبين والمخلصين لعملهم.
الصالح بالطالح!
وبحسب خبراء في الإدارة إن “داء التربُص” ناتج عن خلل إداري بالأساس، مشيرين إلى أن بعض المؤسسات لا تولي تأهيل وتدريب وتقييم موظفيها أية أهمية، وهذا برأيهم يساهم بخلق الفوضى ويجعل فئة من الموظفين المتخاذلين الوصوليين يفتعلون الضرر ببيئة العمل عندما لا تكون لصالحهم، فيحاولون الافتراء على زملائهم والتآمر عليهم وتقديم أنفسهم بأنهم الأفضل.وحتى نتخلص أو نخفف من هذه الحالة المرضية، يؤكد خبراء الإدارة أن مدير المؤسسة يجب أن يكون يقظاً ومدركاً لمثل هذه الحالات من خلال الاعتماد على لجان نزيهة تُقدر وتُقيّم بشكل عادل نتاج وسلوك أي موظف، بمعنى أن لا تتصرف الإدارة بمبدأ ردود الأفعال لأن ذلك إن حصل فسيفقد المؤسسة خيرة كوادرها عندما يشعرون بأن جهودهم ضائعة وكرامتهم مهدورة.
بعيدة عن الاهتمام!
بالمختصر، واقع الحال مثير للدهشة، فأزمة الأخلاق باتت مقلقة، ومنها أخلاق العمل التي بتنا نخشى عليها أن تتلاشى، فالعمل ليس مجرد أداة يجلب مردود مادي للمؤسسة، وإنما هناك جوانب أخلاقية واجتماعية ومهنية للموظفين يجب تقديرها واحترامها حتى يكون الإنتاج مميزاً، وهذا لا يتحقق إلا بإرساء مبادئ ومعايير عادلة في بيئة العمل تنصف أصحاب الضمائر الحية والمهارات المتقدمة وتعاقب بأشد العقوبات من يتبع الأساليب الملتوية ويلحق الضرر بزملائه في سبيل تحقيق مصالحه الشخصية، وما يقلق أن أخلاقيات العمل لغاية الآن لا تلقى اهتماماً سواء من الباحثين في الكتابة عن انكماشها، أو من الجهات المعنية المطلوب منها تعزيز تلك الأخلاق من خلال تغيير أساليب التأهيل الوظيفي، ومحاربة الفساد الإداري الذي ينخر كالسوس في مفاصل بعض الإدارات!.