مجلة البعث الأسبوعية

رياح السلام تهب على الشرق الاوسط

البعث الأسبوعية- هيفاء علي

تسونامي الدبلوماسية تجري الآن في الشرق الأوسط، والتي نادراً ما يسمع عنها في الغرب، حيث يقترب احتمال التوصل إلى تسوية بشأن جوهر الأزمة في سورية، حيث سحرم هذه التسوية الولايات المتحدة من إمكانية الاستمرار في سرقة النفط السوري بشكل غير قانوني.

من الواضح أن الأساس في كل هذا “الانقلاب” هو السعودية، التي بدأ بالتحول في الولاء منذ فترة طويلة، على الأقل منذ ارتباط روسيا بمنظمة “أوبك +”، حين اتفقت روسيا والسعودية على مواجهة إنتاج الغاز الصخري الأمريكي قبل “حرب النفط” التي أعقبت جائحة كورونا. يبقى العامل الرئيسي المتمثل في صعود الصين والقلق “الثقافي” للحكام العرب بأن يكونوا على الجانب الأيمن من مقبض الأداة. لقد كانت قضية خاشقجي وسيلة للسعودية لإبلاغ الولايات المتحدة بأنها تريد استعادة السيطرة على مصيرها لتوكلها إلى شخص يحمل وعداً أكبر، وأنهم لن يسمحوا بدخول دول التلاعب التقليدية من قبل المنشقين المتدخلين.

وهكذا، في أعقاب الاتفاق الذي توسطت فيه الصين بين السعودية وإيران، بدأت ثورة دبلوماسية أخرى تختمر في الشرق الأوسط، وهذه المرة، روسيا هي التي تلعب دور قائد الفرق الموسيقية، في حين أن العالم لم يستوعب بعد حقيقة -عواقب -التقارب السعودي الإيراني الذي رعته الصين.  فقد وصل وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان إلى دمشق والتقى السيد الرئيس بشار الأسد. وجاءت زيارته في أعقاب زيارة وزير الخارجية فيصل المقداد الرياض الشهر الماضي.  وكانت العلاقات الدبلوماسية قد انقطعت بين سورية والسعودية منذ عام 2012، في بداية الحرب على سورية.

بالمجمل يجب فهم الموقف الدبلوماسي السعودي في سياق تعريف جديد لسياستها الخارجية، وهو ما ينعكس في الاتفاقية التاريخية الموقعة مع إيران، اذ يسعى هذا النهج الجديد إلى الاستقرار الإقليمي من خلال حل النزاعات بدلاً من استراتيجيات الاحتواء العسكرية، وهذا ما دعا اليه الوزير السعودي في دمشق بالقول إن هدف السعوديين هو إيجاد حل سياسي للأزمة السورية لوضعحد لردود الفعل العكسية في المنطقة من خلال الحفاظ على الوحدة والاستقرار والهوية العربية لسورية، والسماح لها بالاندماج في بيئتها العربية.

هذا التقدم الدبلوماسي الكبير بين الرياض ودمشق هو نتيجة لتزايد نفوذ روسيا في شؤون الشرق الأوسط، ويشكل أحدث المؤشرات الواضحة لفقدان هيمنة الولايات المتحدة في المنطقة، حيث تتراجع بصمتها العسكرية والدبلوماسية بشكل مطرد في غضون السنوات الاخيرة.

تستفيد روسيا من العلاقات الوثيقة والراسخة مع الحكومة السورية، والتي تجلت أكثر فأكثر في عام 2015، حيث دخلت روسيا ووقفت الى جانب الحكومة السورية لمساعدتها على مواجهة ودحر الارهاب العالمي على أراضيها. بينما كانت العلاقات مع السعودية أكثر تعقيداً جراء توافقها مع أهداف الأمن القومي والأجنبي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وسياسة الطاقة العالمية. لكن هذه الديناميكية تغيرت في تشرين الأول من عام 2018، عندما تم اغتيال الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي، حيث شعر السعوديون بالإهانة من الاحتجاج الذي أثارته هذه الجريمة في الولايات المتحدة، وعلى وجه الخصوص، التهديد الذي وجهه المرشح الرئاسي آنذاك جو بايدن بعزل ومعاقبة ولي العهد محمد بن سلمان.

في تموز 2022، أُجبر بايدن على الذهاب إلى السعودية ليطلب من محمد بن سلمان زيادة إنتاجه من النفط من أجل السيطرة على الارتفاع في الأسعار الناجم عن عقوبات النفط والغاز الأمريكية التي فرضت عقب العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا في شباط 2022، لكن الولايات المتحدة لم تحصل على ما تريد، إذ لم يعط الاجتماع بين الزعيمين النتائج المتوقعة. لقد أدركت السعودية وروسيا بالفعل أن مصالحهما، باعتبارهما منتجين رئيسيين للنفط، لم تعد تستوعب المنافسة المنظمة في سوق تهيمن عليه مخاوف الولايات المتحدة. وُلد هذا الفهم المشترك في ربيع عام 2020، في أعقاب الاضطرابات التي كانت تمثل “حرب النفط” بين البلدين، حيث قامت السعودية بتخفيض أسعار النفط فجأة عن طريق إغراق السوق، مما أدى إلى استجابة مماثلة من روسيا. بيد أن المفاوضات التي رعاها آنذاك دونالد ترامب هي التي أنهت هذه الحرب، ولبعض الوقت تم هيكلة سوق الطاقة من خلال التوافق المفتوح بين المنتجين الرئيسيين الثلاثة، الولايات المتحدة وروسيا والسعودية، للحد من حصصهم.

ثم جاءت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حيث أقنعت العقوبات الأمريكية روسيا والسعودية بأن الولايات المتحدة لم تكن شريكاً موثوقًا به في إدارة مواردهما الوطنية الرئيسية. ومع تكوين علاقات جديدة بين روسيا والسعودية، بناءً على أهداف وغايات مشتركة، يمكن أن تتصاعد التوترات بين السعودية والولايات المتحدة والتي يغذيها الافتقار التام للصدى بين سياسات الشرق الأوسط لإدارة بايدن ومحمد بن سلمان. حيث شرعت السعودية في مشروع أساسي هو “رؤية 2030″، والذي يهدف إلى تنظيم الانتقال من مملكة تعتمد بشكل كبير على مكاسبها النفطية إلى اقتصاد متنوع يعتمد على التقنيات الجديدة والمبادرات الاقتصادية غير المرتبطة بقطاع النفط. ولكن هذا المشروع يتعارض مع السياسات الأمريكية التي تسعى إلى الحرب وعدم الاستقرار الإقليمي، حيث ألزمت إدارة بايدن نفسها في سياسة تتطلب من السعودية أن تتصرف كحجر زاوية للمواجهة مع إيران على طيف يمتد من لبنان إلى اليمن إلى سورية وفلسطين المحتلة والعراق. فيما كان يتعين على السعودية أن تكون شريكاً في جهود زعزعة الاستقرار التي تبذلها الولايات المتحدة في لبنان وسورية والعراق.

ومع وضع أهدافها في التنويع الاقتصادي في الاعتبار، كانت تتطلع إلى روسيا لخلق الاستقرار الإقليمي اللازم لتطوير اقتصاد من ثروتها في مجال الطاقة. وهكذا نظمت روسيا بتكتم المناقشات بين الدبلوماسيين والمسؤولين السوريين والسعوديين، والتي أسفرت ذروتها في آذار 2023 عن زيارة الرئيس الأسد إلى موسكو، حيث تم الانتهاء من مبدأ التقارب مع السعودية.

ورغم ذلك، لا يزال هناك عمل يتعين القيام به، حيث لا تزال جهود السعودية لإعادة سورية إلى جامعة الدول العربية تواجه مقاومة عنيدة من الدول الملتزمة بتعليمات  الولايات المتحدة. لكن الشيء الأساسي هو أنه بفضل الدبلوماسية الروسية والصينية، فإن رياح السلام هي التي تهب على الشرق الأ وسط برمته وليس إعصار الحرب، والخروج من نفق سورية هو ببساطة آخر مظهر من هذه الظاهرة.