الوثائق المسرّبة.. أمريكا ليست حليفاً بل جاسوسٌ
البعث الأسبوعية- ريا خوري
منذ زمن لم يُسمَع دوي أجراس الإنذار والتنبيه في الولايات المتحدة الأمريكية إلّا بعد تسريب الوثائق السرية لوزارة الدفاع الأمريكية. هذه التسريبات الخطيرة تعبّر، بلا شك، عن انتكاسة جديدة للولايات المتحدة، والتي تعتبر ليس فقط اختراقاً للأمن القومي للولايات المتحدة بالنفاذ إلى أدق أسرارها العسكرية، بل ما سيحدث من تمدّد واستطالات العواقب إلى سياستها الخارجية، بعد كسر ثقة الحلفاء والأصدقاء، نتيجةَ تجسّسها عليهم وعلى كبار قادتها ومسؤوليها، حتى وصل الأمر ببعض الحلفاء والأصدقاء إلى طلب اجتماعات قمة مع قادة الولايات المتحدة السياسيين والأمنيين والعسكريين لبحث ما جرى، مثلما أعلنت ذلك كوريا الجنوبية.
موضوع تسريب الوثائق كان مقلقاً جداً لصانع القرار العسكري الاستراتيجي الأمريكي، فقد عكفت أجهزة البنتاغون على حل لغز تسرب الوثائق الرسمية السرية منذ اللحظة الأولى، ومحاولة الكشف عن الشخصية المسؤولة عن اقتحام الخزائن السرية المغلقة، والعثور على إجابة شافية على السؤال التالي: هل الوثائق العسكرية سُرِقَت أم تسرّبت بإرادة مسبقة ؟.
بعد التقصي والتحقيقات المطوّلة جاءت المفاجأة الدرامية بإعلان إلقاء القبض في مدينة بوسطن، على شخص يدعى جاك تايكسيريا للاشتباه في أنه الشخص – المجهول حتى حينه – الذي سرّب الوثائق إلى وسائل التواصل الاجتماعي ، وتبيّن أنّه عضو في وحدة مخابراتية بجهاز الطيران العسكري بولاية ماساشوسيتس. تلك المفاجأة فتحت الباب لمناقشات وحوارات ساخنة مطوّلة عن قابلية الأمن القومي الأمريكي للاختراق، وسارع مسؤولون كبار في البنتاغون بإيضاح أنّه مسموح لعدد محدود جداً من الأشخاص بالاطّلاع على عشرات آلاف، إن لم يكن مئات الألوف من الوثائق السرية، واتضح بشكلٍ أوّلي أنّ من بين هؤلاء المشتبه فيهم جاك تايكسيريا المقبوض عليه الآن. قبل إلقاء القبض على المتهم، كانت البيانات، والتقارير الرسمية الأمريكية في حالة تناقض كبير ما بين التشكيك في كونها وثائق حقيقية أم لا، وبين اتهام جمهورية روسيا الاتحادية بأنها وراء تسريبها.
لم تتوقف عمليات البحث عن المشتبه بهم من قِبَل المباحث الفيدرالية، بينما كانت البيانات وتصريحات كبار المسؤولين العسكريين والأمنيين الأمريكيين في حالة تناقض، وعدم انسجام ما بين التشكيك في كونها وثائق حقيقية موجودة لدى خزائن أسرار الجيش الأمريكي، وبين اتهام جمهورية روسيا الاتحادية بأنّها وراء تسريبها.
في حقيقة الأمر كان الرد الروسي حاسماً على كل تلك التساؤلات والاتهامات، والتي جاءت إحداها على لسان المتحدث الرسمي باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف حيث قال: “تلك هي عادتهم في إلقاء اللوم على روسيا الاتحادية في كل شيء. وأى شيء”. ثم قال: “إن ما نُشِرَ عن تجسّس الولايات المتحدة الأمريكية على دول تربطها بها علاقات تحالف وصداقة وثيقة، لا يدعو للدهشة، ولا يعد مفاجأة أبداً”.
في الجانب الآخر، قال أحد كبار المسؤولين الأمنيين الأمريكيين في إحدى التصريحات: “إنّ الوثائق تبدو حقيقية. ليس هناك سبب يدعو للتشكيك فيها”. هذا المسؤول يعلم مسبقاً حجم تجسس بلاده على دول الحلفاء والأصدقاء والأعداء. كما أكّد ذلك محلّلون سياسيون وعسكريون وأمنيون بقولهم: “من الواضح أن الوثائق العسكرية المسرّبة تبدو حقيقية”. وأعرب عدد كبير من المسؤولين الأمريكيين عن أنّ الوثائق العسكرية المسرّبة أظهرت إطلاع الولايات المتحدة الأمريكية الواسع مخابراتياً، على خطط روسيا العسكرية، وهو ما يبعد الشبهة عن جمهورية روسيا الاتحادية .
وأمام ما بدأ يتكشّف ويتأكد للأجهزة الأمنية والعسكرية والسياسية والإعلامية من أنّ الوثائق حقيقية، وموجودة في خزائن الوثائق السرية الأمريكية، فإن تأثيراتها بدأت تنعكس على حلفاء وأصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية، والتي أظهرت أنها تتجسّس عليهم مثلما تتجسس على خصومها.
في البداية، حاولت الولايات المتحدة الأمريكية نفي التهمة عنها بتصريح لوزير الدفاع لويد أوستن، عندما قال: “إنّ عدداً كبيراً من الوثائق قد تم تزويرها”. لكن مع تناقض التصريحات الصادرة عن كبار المسؤولين الأمريكيين، وواقعة إلقاء القبض على الطيار جاك تايكسيريا، فقد بادرت حكومة كوريا الجنوبية– الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية – بالإعلان عن أنها سوف تناقش هذه القضية الخطيرة والحسّاسة في اجتماع قمة قريباً جداً مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعدما تبيّن من الوثائق عن التجسس على كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين والأمنيين في كوريا الجنوبية.
يذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية تجمعها في إطار ما يُعرَف بمجموعة التعاون المخابراتي، علاقات مع عدّة دول تضم بريطانيا، ونيوزيلندا ، واستراليا، وكندا.
لم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ بل علّقت على ذلك صحيفة “نيويورك تايمز” بأنّ هذه الوثائق العسكرية السرية المسرّبة سوف تعقّد علاقات الولايات المتحدة الأمريكية بحلفائها. وهو نفس ما ذكره مسؤول كبير بالمخابرات الأمريكية من أننا أمام كابوس مخيف وخطير لمجموعة التعاون المخابراتي. وأنّ ما جرى كان مؤلماً حقّاً، ويمكن أن يتسبّب في تقليص التنسيق والتشاور المعلوماتي مع مخابرات الحلفاء والأصدقاء، وهو ما دفع كبار المسؤولين الأمريكيين إلى التعبير عن خشيتهم من الأضرار الجسيمة بالعلاقات الخارجية المهمة للولايات المتحدة الأمريكية.
ومن إجمالي المشاهد التي تجمّعت حتى هذا اليوم لهذا المشهد، فإنّ مصادر أمريكية موثوقة راحت تستخلص بعضاً من النتائج الخطيرة لهذا الحدث الخطير، ومن بينها الاختراق الخطير لجهود ودور المخابرات المركزية الأمريكية في حرب أوكرانيا. وأيضاً ما نقلته وسائل الإعلام عن محللين سياسيين وعسكريين وأمنيين مختصين بمتابعة تلك الواقعة من أنّ جزءاً من تلك الوثائق يزوّد روسيا الاتحادية بمعلومات خطيرة وحسّاسة، وقيّمة عن جداول تسليم الأسلحة وأنواعها وأعدادها لأوكرانيا، ودعم قواتها، وتفاصيل دقيقة عمّا قد لا يكون معروفاً عما يجرى في الحرب الأوكرانية الساخنة .
وليس بعيداً عن كل جميع التجاوزات والاستحقاقات في ذلك، فإنّ تأثير ما حدث سيكون سيئاً على دول العالم، وعلى منطقة الشرق الأوسط أيضاً التي تجمعها علاقات قوية طويلة الأمد مع الولايات المتحدة الأمريكية التي انفضح أمرها بأنها ليست حليفاً موثوقاً، بل جاسوساً عليها وعلى قادتها ومسؤوليها.