أدونيس.. شاعر خارج السرب
أمينة عباس
لم تكن المحاضرة التي قدّمها الشاعر بيان الصفدي في اتحاد الكتّاب العرب ضمن اجتماع جمعية الشعر، وحملت عنوان “مدخل إلى شعر أدونيس” إلا فرصة مناسبة تمنى في نهايتها أن يعيد اتحاد الكتّاب العرب النظر في فصل أدونيس وغيره من الاتحاد، حتى لو اختلفنا مع أي فكر أو موقف، ولا يليق ذلك الإجراء ببلادنا وثقافتنا حسب قوله، مطالباً بعدم تغييب بعض المفكرين نتيجة آرائهم وإن اختلفنا معهم، وقد قوبل هذا التمني بإجماع الحاضرين، في الوقت الذي بيّن فيه أ. توفيق أحمد نائب رئيس الاتحاد في مداخلة له أنه كنائب رئيس اتحاد الكتاب العرب ليس مع فصله لأنه مقتنع أن فصله ليس سببه ما نُسِب إليه، وقد يكون فصله تمّ لأسبابٍ شخصية أو أسباب أخرى، وكل الاتهامات التي وجهت له مغرضة، لذلك رأى أن فصله أكثر من ظلم لشاعر كبير وحالة فكرية ثقافية عالمية، مطالباً أعضاء الجمعية بتقديم المقترح وفق الأصول.
جرأة وجنون
وأشار بيان الصفدي في محاضرته إلى أنه لم يحدث أن أثار شاعر عربي هزة متواصلة في الساحة الشعرية العربية كما فعل أدونيس، حيث لم تهدأ الجدالات والعواصف النقدية بتأثيره، وقد أكدت حياة الشاعر وبداياته وثقافته فرادته، وهو الذي نشأ في بيئة فقيرة محبة للعلم والشعر لأب متفهم وحر وأم طيبة بسيطة، وقد خلَّف موت الأب المبكر محترِقاً أثراً لا يُمحى في ذاكرته وقد بكاه في قصيدة له حملت عنوان “الموت”، مبيناً أن أدونيس طفل لم يقتنع بما يقدمه الكُتَّاب، فراح يحلم بالمدرسة العصرية، وحين طلب من رئيس الجمهورية السابق شكري القوتلي عندما قدم إلى جبلة عام 1944 وهو ابن الثالثة عشرة من عمره بعد أن ألقى قصيدة في مدحه أن يتعلم فقال له إنهم سيعلّموه على حسابهم، فالتحق بمدرسة اللاييك في طرطوس، وبرز طالباً متفوقاً ومنخرطاً في النشاط ضد الاحتلال الفرنسي. وأوضح الصفدي أن شاعرية أدونيس نضجت مبكراً بسبب الموهبة والاطلاع على أمّهَات الدواوين العربية، وخاصة الشعر الصوفي، مع معرفة أولية بشعراء فرنسيين، وهذا ما أكسب بداياته روح الانفتاح والتجديد، وبعد تردِّد أكثر من صحيفة في نشر قصائده باسمه الصريح أرسل قصائد له بتوقيع أدونيس، ففوجئ بنشرها، ونشر قصائده الأربع الأولى في مجلة “القيثارة” التي صدرت في اللاذقية 1946 / 1948، والتي ضمَّت خيرة الشعراء وقتها من رواد التجديد كنديم محمد وعلي ناصر وأورخان ميسر ونزار قباني ويوسف الخال وكمال فوزي الشرابي وفاتح المدرس، وقد مضى أدونيس لا يتوقف عن كتابة شعر مختلف حتى الآن، ركائزه الهدم والبناء، الزلزلة والتأسيس، المحو والكتابة، إضافة إلى الجرأة والجنون والاختلاف والتحدِّي والحرية وعلاقة صوفية مع القصيدة التي تنتمي إلى فرادة في النظر إلى الجسد والموت والتاريخ والمستقبل، ليظل شعره خارجاً عن السرب.
مهندس القصيدة العربية الحديثة
وأكد الصفدي أن أدونيس من أهم الذين عزَّزوا الأشكال الفنية للقصيدة العربية الحديثة، وقد وصفه الشاعر علي الجندي بأنه “مهندس القصيدة العربية الحديثة” وكان شعره متأثراً ببعض الشعراء الرومانسيين، مع رغبته في تطوير الصورة والمفردة والبناء والرؤيا الشعرية بتأثير واضح من الشعر الصوفي، وقد عزَّز شاعريته اطلاعه العميق على اللغة العربية ما طبع شعره بالمتانة والعمق معاً، وهو القائل: “حتى لو افترضنا أن اللغة العربية لغة ميتة فأنا سأكتب إلى أن أموت بهذه اللغة”. وأشار الصفدي إلى أن المسعى الفني الإبداعي جال في نتاجات أدونيس الأولى التي ظهرت فيها الركائز الأساسية لشعره اللاحق: الحس الصوفي، التجدّد، الحيرة، الفجائعية، التأمل، التمرُّد، القلق، النرجسية، الغنائية، التفرُّد والاحتجاج الشامل على ما يحيط به، حيث يقول: “أعيش في مجتمع ينبغي إعادة بنائه كلياً”.
النثر
وعلى الرغم من أن أدونيس هو أول من أدخل اصطلاح “قصيدة النثر” إلى العربية مترجماً عن الفرنسية، وكان من أوائل من نظرّوا لهذا الشكل إلا أن الصفدي رأى أنه لم يقدم فيها ما يتجاوز شعرياً القصيدة الموزونة عنده، وهي عند أدونيس دخلت في باب النصوص أو الكتابة كما سمّاها، وأنه وبعد أن بدأ أدونيس شديد الحماسة لها عاد ليخفّف من غلواء اندفاعه وراح ينعي الحصيلة التي جمعها منها، مبيناً أن إكثاره من اللعب الشكلي هو ما يشوش تجربته في قصيدة النثر وكذلك الذهنيات والتشتت والحذلقة في الصياغة، فجعل عدداً من قصائده النثرية أو أجزاء منها مختبرات لغوية وثقافية لها دورها في الإدهاش الفني والغرائبي، إلا أن محمولاتها من الجمال والدفء قليلة ولا تُقرأ من عامة القرّاء.
مملوء بتراثه
وفي الوقت الذي يرى فيه كثيرون أن أدونيس متنكر للتراث العربي بسبب تصريحات مستفزة منه، بيّن الصفدي أنه واحد من النادرين الذين جمعوا بين الحداثة وامتلاك موسوعي للشعر العربي، وأن الدارس لشعره سيدرك سريعاً أن نتاجه تلوين حديث على تراثنا العربي، مؤكداً أن إشارات أدونيس النصية التراثية في شعره دليل على أنه كما قال: “الشاعر مملوء بتراثه كما هو مملوء بدمه، ولكي تكون حديثاً بالمعنى الحقيقي للكلمة يجب أن تكون كلاسيكياً، فلا معنى للحداثة إلا إذا أسّست لكلاسيكية، وهذا التجذُّر لا يشلُّني وإنما يضيئني، وأكثر الشعراء ارتباطاً بتراثه أكثرهم تمرداً عليه، وكل ارتباط بالتراث يجب أن يتضمن الارتباط والتخطي”، انطلاقاً من تأكيده على أن لا حداثة بلا أصالة، وهذه المسألة برأي الصفدي كانت من نقاط الافتراق بينه وبين جماعة مجلة “شعر” بعد أن كان واحداً من أركانها.
نرجس الزمان العربي
وتحدث بيان الصفدي أيضاً عن نرجسية أدونيس الواضحة من خلال ما يقوله، من مثل: “همومي خارج الهموم التي تسيطر أو تهيمن على المثقفين العرب، وأرى أنني كشاعر أو كباحث أكبر من كل منهج شعرياً، وأنا نرجس هذا الزمان العربي وبجميع المعاني والأكثر تأثيراً بين الشعراء في اللغة الشعرية العربية اليوم، والنقد العربي كما يمارس اليوم لم يفهمني كما يجب، وما حققته في اللغة الشعرية والبناء الشعري وصل إلى مستوى لا سابق له، ولا يوجد في النتاج الراهن ما يضاهيه، ويكاد أن يصبح من غير الممكن كتابة الشعر إلا بدءاً منه ومن الآفاق التي يفتحها.. أقول ذلك دون تواضع كاذب”.
ورأى الصفدي أن هذه الأنوية مقبولة عند ورودها شعراً: قلْ أنا الطاغية وأعلنْ جمهورية الهدم،لا أتبع لا أقود، وأظلِّل حتى نفسي.
لغة صوفية
وأوضح الصفدي أن هيمنة اللغة الصوفية الدائمة على شعر أدونيس لها علاقة بجذوره الشخصية والثقافية، فقد نشأ بدايةً على الشعر الصوفي، ثم نما عنده الميل إليها شعراً، وقد استخدم أعلام الصوفية كأقنعة صوفية، وضمَّن قصائدَه بعض ما قالوه، وأعاد إحياء نتاج ومسيرة بعضهم كما فعل مع النفَّري، وقد انتقل كلّ ذلك إلى أسلوبه القائم على الاندماج بالأشياء واستنطاقها والتماهي معها والشطح الشعري من خلال الروح السريالية التي تمدُّ ظلالها على معظم نتاجه: “أهلاً بالأطراف، بكل عَصيِّ، أهلاً بالتيه، بكل قصيِّ”.