استراتيجية التهديد وإنضاج الصراعات بالوكالة ضدّ النموّ الصيني المتسارع
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
تتابع أمريكا استفزازاتها في معظم مناطق العالم بشكل متفاوت الشدّة ومتأرجح وفقاً لما تشعر به من حقد وعداء ضدّ الدول التي ترفض السير خلف نهجها أو الخضوع لإرادتها وهيمنتها الاستعمارية، لكنها ما زالت تحافظ على مستوىً هو الأعنف من تسخين الجبهات والاستفزازات في منطقتي آسيا والمحيط الهادئ، التي تعدّها المكان الاستراتيجي الأول بالنسبة لمصالحها ونفوذها وسط خوف وقلق متزايد من خسارة ذلك، مع التقدم السريع للنموّ الصيني اقتصادياً وتجارياً في هذه المنطقة تحديداً، أو في غيرها من مناطق العالم.
ونلحظ أن الولايات المتحدة عملت جاهدة على تهويل حادثة اصطدام بين سفينة دورية صينية وسفينة فلبينية في بحر الصين الجنوبي، حيث عمد الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى إطلاق تحذيرات موجّهة إلى الصين تتضمّن أن “أي هجوم مسلح على السفن أو القوات أو الطائرات الفلبينية سيفعّل اتفاقية الدفاع المشترك بين واشنطن ومانيلا”، الموقّعة منذ منتصف القرن الماضي وتم تجديدها منذ عدة سنوات، وكعادتها تتابع واشنطن استغلال ماكنتها الإعلامية العالمية في زرع العداء ضدّ أي دولة لا تسير وفق أهوائها وسياسة فرض الأمر الواقع التي تنتهجها، حيث تطبّق ذلك الآن وبضراوة ضدّ الصين، كما سبق أن فعلت ذلك ضدّ روسيا قبيل الحرب في أوكرانيا، حيث أإن الإدارة الأمريكية ذهبت بنفسها نحو الصين بقواتها وأساطيلها ومدمّراتها النووية وبنت قواعدها العسكرية في محيطها ودول جوارها، مع جهدها لتحويل محيط الصين إلى محيط نووي، وفي الوقت نفسه تقوم بتصوير الصين على أنها “تشكّل خطراً على السلم الدولي”، إضافةً إلى ذلك تأتي هذه التصريحات الأمريكية المستفزة بالتزامن مع زيارة الرئيس الفلبيني، فردناند ماركوس، إلى الولايات المتحدة لبحث العلاقات التجارية والعسكرية الثنائية، والتنسيق مع وزارة الدفاع الأمريكية لتسيير دوريات مشتركة في بحر الصين الجنوبي.
هذه الخطوات الاستفزازية أغضبت بيونغ يانغ قبل بكين واعتبرتها مقدّمة لحرب نووية وشيكة في المنطقة لما تحمله من استفزاز.
وتعدّ هذه الخطوات أيضاً مكمّلة لسلسلة من الاستفزازات الأمريكية التي سبقتها كزيارة رئيسة تايوان إلى الولايات المتحدة، واختلاق الخلافات بين الصين وجيرانها والمحاولة الأمريكية الفاشلة لإشعال الخلاف بين الهند والصين، بشكل يوضح مدى ازدواجية السياسة الأمريكية، فمن جهة تدعو إلى وقف الاستفزازات والتوترات ومن جهة أخرى تصبّ الزيت على نارها في المنطقة ذاتها، متابعةً سياسة الاحتواء ضدّ الصين وممارسة الضغوط القصوى عليها، كما أن خطواتها في الفلبين ليست إلا تطبيقاً لإستراتيجيتها الدفاعية التي نصّت صراحة على التحذير من “خطر النمو والتمدّد الصيني”، وجزء أساسي من استراتيجيتها تجاه منطقة آسيا والمحيط الهادئ، إذا ما علمنا أنها تجري مفاوضاتٍ مع حكومة مانيلا لبناء أربعة قواعد عسكرية جديدة فيها، واحدة منها في بحر الصين الجنوبي وأخرى قرب مضيق تايوان وبشكل يُعدّ تهديداً سافراً للأمن القومي الصيني، فقرب جزر الفلبين من مضيق تايوان ساهم في زيادة تقارب واشنطن مع مانيلا مؤخراً دوناً عن بقية دول آسيا، على اعتبار أن الإدارة الأمريكية تعزف على وتر تأجيج الوضع في تايوان وإذكاء النزعة الانفصالية، في حين تجتهد بقية دول آسيا حتى مع وجود الخلافات بينها وبين الصين على إدارتها مقابل تعميق العلاقات الاقتصادية والتجارية معها، لذلك تحاول واشنطن جذب أكبر عدد ممكن من الدول المتحالفة معها في المنطقة ضد الصين، حيث جرّت نحو تلك التحالفات دولاً إضافية مثل نيوزيلاندا وأستراليا وجزر بابوا غينيا.
لكن بالمقابل، ما تطلقه إدارة بايدن من تصريحات نارية يفتقر إلى الجدية في الانخراط بصراع مسلّح مع الصين، ولسبب وجيه وأساسي حالياً يتمثل في أن مصانع السلاح في أمريكا وأوروبا غير كافية أساساً لمدّ نظام كييف بالأسلحة والذخائر في حربه بالوكالة لمصلحتهم ضدّ روسيا، ونتيجةً لذلك تسعى الإدارة الأمريكية جاهدةً لتوريط دول آسيا بصراعات ضدّ الصين، محاولة تشجيعها وتقويتها على بذل المزيد من الانبطاحات تجاه هيمنتها، ولرفع سقف الثقة بها كحليف بعد انخفاضه نحو أدنى مستوىً إبان التطوّرات الأخيرة، وخاصةً على الصعيد الأوروبي والأوكراني، فنلحظ أن الفلبين حتى الآن لا تجرؤ على السماح لأمريكا ببناء قواعد قريبة من تايوان، على الرغم من أن أمريكا تجتهد نحو تقريب مسافة وجود هذه القوات من مضيق تايوان، ولو عبر تعريض الفلبين لخطر غضب الصين من التطاول على سيادتها، كما تسعى واشنطن من تلك التصريحات إلى خلق مبرر أمام دافع الضرائب الأمريكي لإقناعه بأن وجود أساطيل وقواعد وقوات بلاده في المنطقة أمر ضروري تجاه “الخطر الصيني” على بلاده وعلى حركة الملاحة الدولية في المحيط الهادئ.
وعلى المقلب الآخر، نرى بكين تحاول تجنّب أي سيناريوهات تصعيدية ضد الولايات المتحدة وأذنابها، فهي تؤمن بأن النمو الاقتصادي والتبادل التجاري الذي تعمل جاهدةً على تحقيقه لا يمكن أن ينتعش في ظل الحروب والتوترات التي لن يستفيد منها أحد، باستثناء الولايات المتحدة ولوبيات صنّاع السلاح، بل على العكس تتخذ بكين خطواتٍ حكيمة وغير مسبوقة للعب وساطات معزّزة للأمن والسلام العالميين، فبعد أن نجحت في تقويض حالة الخلاف بين طهران والرياض كفاتحة لحل معظم الخلافات في الشرق الأوسط، تسعى الآن بجدية لحل الخلاف وإنهاء الحرب في أوكرانيا عبر التواصل السياسي وإعادة التمثيل الدبلوماسي مع حكومة كييف، التي على ما يبدو ستسير نحو الطريق الإيجابي رغم الضغط الغربي الهائل لإبقائها جبهة استنزاف لموسكو.
همّ بكين الأكبر الآن يتركز على إقناع كل الدول بالسير في طريق العالم المتعدّد الأقطاب، حتى وإن لم تتم هيكلته بشكل كامل أو واضح المعالم، والسير معها ومع روسيا و”بريكس” والدول الآسيوية الصاعدة ضدّ العالم الأحادي القطب، كما تسعى لإقناعهم بنبذ حالة التوتر والخلاف في سبيل تحقيق التقدّم والرقي والعدالة لهم جميعاً.