الرئيس الأسد.. تصحيح التاريخ والعروبة الحضارية
بسام هاشم
عبر تحريكه من مستوى العلاقة بين المكوّنات الوطنية في الداخل، إلى مستوى العلاقة مع الدول العربية – أو «المكونات» العربية – ينطوي مفهوم «العروبة الحضارية» على إمكانيات وقابليات هائلة لوضع أسس صلبة وراسخة لبناء العمل العربي، أقلّه خلال المرحلة المقبلة، مع الإشارة، للمفارقة، إلى أن ما تشهده المنطقة العربية اليوم، أو ما تخلّف عن جثة «الربيع العربي» المزعوم، لن يكون، على المدى القريب، أقل من هيكل، أو هيكليات، سياسية واقتصادية، وأمنية ربما، خارج استقطابات الهيمنة الأمريكية التقليدية، والدخول من ثم في نمط علاقات لا سابق له، ودون مبالغة، منذ انهيار الدولة العباسية؛ وهو نمط ربما لا ينهض على وحدة سياسية، وربما لا يزيل حدود الدولة القطرية، ولكنه سيعمل وفق الانسياب المرن للأشخاص والبضائع ورؤوس الأموال، وسيكون أشد تأثراً بالروح الآسيوية القائمة على الحس الجماعي والعمل المشترك، وأبعد عن الثقافة الغربية المشبعة بالأنانية والتسلط والفردية والمركزية، الأوروبية والأنغلوساكسونية، والأهم أنه بمنأى عن الرغبة في الاستحواذ والهيمنة، وعن التداعيات المكيافيلية لسياسة «فرق تسد» الغربية. وهو ما كان يعنيه السيد الرئيس بشار الأسد، على الأرجح، لدى استقباله وزير الخارجية السعودي، قبل ثلاثة أسابيع، حين أكد أن «التغيرات التي يشهدها العالم تجعل من التعاون العربي أكثر ضرورة في هذه المرحلة لاستثمار هذه التغيّرات لمصلحة الشعب العربي في أقطاره المختلفة»، وأن «الأخوّة التي تجمع العرب تبقى الأعمق والأكثر تعبيراً عن الروابط بين الدول العربية».. مع الإقرار في الوقت نفسه بأن المطلوب «ليس أن نكون أصحاب فكر واحد أو توجّه واحد، لكن المهم أن نلتقي بالهدف النهائي»، وهو ما عبّر عنه خلال لقائه أعضاء الأمانة العامة لمؤتمر الأحزاب العربية بدمشق، في آذار الماضي.
هنا أيضاً، يغدو استدعاء مفهوم «تصحيح التاريخ»، الذي كان أطلقه الرئيس الأسد عقب تحرير مدينة حلب من الإرهاب، توصيفاً ملائماً وضرورياً للتعبير عن التحولات العربية الراهنة بما تتسم به من تسارع، وبما تنطوي عليه من إمكانيات تقدّم حاسمة ونهائية، وغير قابلة للارتداد، بغض النظر عن بعض الخطابات الإعلامية الساذجة والسطحية والقاصرة عن مجاراة التطورات الحاصلة، وفي حالة شبه انفصال عن الواقع. ولعل عودة مقعد سورية في الجامعة العربية، في هذا السياق، مجرّد «خطوة».. «خطوة أولى» وحسب، في الطريق الطويلة لعودة الوعي العربي من تمزقاته الرهيبة، ولـ«تصحيح» مسار لم يكن ليبدأ مع تجميد العضوية، بل كان قد شكّل سمة حقبة طويلة بدأت مع الحرب العالمية الأولى، قبل قرن من الزمن، واختبرت فيه المنطقة العربية آلام الاستعمار الغربي وعذاباته بكل أشكالها، ليسجل بدء نهايته الحتمية، وللمفارقة أيضاً، مع إحكام الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط، باحتلال العراق، والأحادية القطبية.
لقد جاءت عودة مقعد سورية إليها في سياق تحوّلات إقليمية ودولية لا يمكن إغفال طابعها التاريخي والبنيوي والشامل، ذلك أن ما يجري اليوم يعكس الرغبة الجماعية في بناء أنظمة حكم جديدة ورثت الأنظمة السابقة، لكنها «تقطع» معها في جوانب عديدة، فعقلية التبعية والارتهان والاستقواء بالخارج هي التي تنسحب اليوم أمام تقدّم روحية التحدّي والصمود والمقاومة. ولربما لعبت السياسة الإجرامية التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية، والغرب عموماً، في سورية، خلال مغامرة السنوات العشر الفاشلة، وما انتهى إليه التدخل الغربي عموماً في سورية ولبنان والعراق واليمن من فشل ذريع؛ علاوة على أن سياسات ازدواجية المعايير، وإذكاء الصراعات الداخلية، واستراتيجيات «قلب الأنظمة»، وإشعال «الثورات الملونة»، بلورت ردود فعل خائبة أدارت الظهر للمطالب والإملاءات الأمريكية، حتى لدى الحلفاء التقليديين أنفسهم.
ولعل الاتفاق السعودي الإيراني الذي لم يستغرق من الصين سوى أشهر معدودة لإخراجه إلى الضوء، وما انطوى عليه من إطفاء حروب ونزاعات أخرى في أكثر من «جبهة» إقليمية، يشكّل إدانة سافرة للسياسة الأمريكية التي مزّقت المنطقة العربية وأرهقتها بالحروب والصراعات العبثية، ووسّعت جبهة المواجهة الإقليمية، لا لشيء إلا لأنها مستميتة تماماً في إرضاء إسرائيل من جهة، ولأنها عاجزة بالكامل عن صياغة سياسة متماسكة ومسؤولة وتملك قابلية الاستمرار، بفعل حسابات انتخابية داخلية أمريكية، من جهة ثانية.
من الواضح أن المنطقة والعالم يعيشان عصر أفول أمريكي وأوروبي.
ومن المنطقي الاستنتاج، بالتالي، بأن ذلك قد يجد ترجمته بصيغة انفراج كبير وتاريخي في العلاقات العربية العربية. إن الشرق الأوسط العربي «يصحّح» التاريخ انطلاقاً من ترميم التشوّهات التي اختلقها الغرب وسهر على استدامتها بالتواطؤ والترهيب والتآمر، وهو تصحيح من روح العصر الذي يشهد تصحيحات أخرى موازية في أوكرانيا والقرم ودونباس وهونغ كونغ وتايوان، لتفتح «العروبة الحضارية» جناحيها على «الأخوة» في معانيها الكبرى على امتداد الثقافة العربية، وتكون قادرة على الإسهام في بناء النظام العالمي الجديد قيد التشكل.
إن فكر الرئيس الأسد واستراتيجيته يؤكدان مرة أخرى شموليتهما وأفقهما التاريخي من خلال ما ينطويان عليه من أبعاد واقعية وقوة للمستقبل.