تكريم نزار صابور بمعرض “حبّ ما أمكن”
ملده شويكاني
لم يكن الفتى الصغير، الذي كان يستقل الحافلة حاملاً لوحته والمزاجة، مبتعداً عن قريته الصغيرة، ليلوذ بالطبيعة ويرسم في فضاءاتها الواسعة متأملاً ألوانها، يعرف إلى أين سيصل! ولم يكن يعي أنه حينما يعود ويصعد إلى سطح منزله العربي ليراقب، من بعيد، تكوينات مدينة اللاذقية ماذا سيوثّق! وأن نقطة الزيت والشمعة سترافقه في رحلته الإبداعية! هذا الفتى الذي أحسّ بالفطرة أنه فنان ورسم هدفه منذ أن كان في الإعدادية، أصبح الفنان نزار صابور، الأستاذ في كلية الفنون الجميلة والمبدع الذي انتشرت أعماله في المتاحف العالمية، وشارك في معارض عبْر القارات، وقدم الفنّ التشكيلي السوري المعاصر في سورية إلى العالم من خلال تجربته الممتدة قرابة أربعة عقود، فغدا من أهم روّاد الحداثة في المشهد التشكيلي السوري، وحصل على جوائز دولية، منها الجائزة الأولى في ملتقى التصوير في دبي، وجائزة بينيالي طهران الدولي.
وتقديراً لمسيرته الإبداعية وجهوده بالتدريس تم تكريمه في صالة “البيت الأزرق” في الأمس، وسيستمر التكريم حتى الثالث والعشرين بمعرض عنوانه “حبّ ما أمكن – تحية إلى نزار صابور”، بمشاركة مجموعة من الفنانين، منهم فؤاد دحدوح وسائد سلوم وعلي مجر ولين عيناوي وغيرهم.
فلسفة الحياة
ولد نزار صابور في عام 1958، والتحق بكلية الفنون الجميلة في دمشق ليتخرج الأول على دفعته، ويتابع دراسته العليا في أكاديمية موسكو ويحصل على الدكتوراه بفلسفة علوم الفنّ في عام 1990، من أكاديمية موسكو للفنون الصناعية والتطبيقية “ستروغانوف”.
ولم تقتصر دراسته الأكاديمية العليا على التدريس فقط، إذ عمقت المفاهيم الإنسانية المتجذرة بأعماقه والمترجمة بأعماله وقناعاته بأن الإيمان بالصدق والإخلاص بالعمل وباحترام الفضائل: “أحب الخير للآخرين، وأشتغل بضمير يعذبني، وأسعى أن لا يكون غشّ بالحياة”، كما يدعو إلى “الحب الذي يمكن أن يكون بين البشر بعيداً عن الغايات”.
روح الأيقونة
التاريخ كان ملهماً أساسياً بالنسبة إليه، ورأى في الأساطير عوالم خفية، أما الأيقونة فكانت فاصلاً في فنه، إذ جسدها من رؤيته الفلسفية، من فهم أعماقها وأبعادها: “الأيقونة تحتاج إلى روح خاصة وليس إلى معرفة خاصة، فلا يكفي أن تدرس تاريخ الأيقونة، لتصبح رساماً”، فتمكن من فهم فلسفة الأيقونة ونقلها إلى اللوحة.
ومع ازدياد تعمقه بالفنّ وخبرته بالتدريس الأكاديمي، لم يعد صابور مقتنعاً بالرسم مباشرة دون أن يقوم بدراسات ويحضر بعض المواد ويرسم الأفكار بمخيلته.
الفنّ والحربّ
وللفن دور وظيفي، فلم ينفصل د. صابور عن الواقع بهمومه ومتاعبه، إذ جسد بمعارضه المتتالية، الأشبه بسلسلة، همّ الإنسان العربي والسوري ومعاناة الحرب الإرهابية التي عاشها السوريون والتخريب والدمار والقتل، فحدد موقفه بالقول والفعل: “أنا من اختار أن أكون في سورية، وأعيش تفاصيلها بين الحزن وسواه”. صور في معارضه واقع المدن السورية والعربية، ولعل معرضه الثالث في روسيا “الحياة لا تموت” في المتحف الحكومي لشعوب الشرق هو الحدث الأبرز الذي وثّق معاناة السوريين في زمن الحرب وأظهر إرادتهم القوية بالثبات والاستمرار، وحمل بارقة الأمل بالمستقبل ضمن مجموعات عدة: الهجرة ومدن الطيور الميتة والحرائق وبعض الأعمال لمدينة معلولا، وربما تكون لوحة الطيور المرفرفة الهائمة في فضاءات اللوحة الأكثر تعبيراً عن واقع كثير من السوريين، فقال عن معرضه في أحد لقاءاته في موسكو: “إن الفنّ يبعث على الأمل وله دور هام من خلال الأوضاع غير الطبيعية، فرغم اليأس الذي ألّم بالبشرية فإن الفنّ كالحياة لايموت”.
ورأت الباحثة العلمية بالمتحف بالينا كورو تشيكوفا إن “صابور يمزج في أعماله بين الرؤى الفكرية وبين الثقافة الفنية ما يجعله يظهر من جانب بمظهر الفنان العريق، ومن جانب آخر بالمفكر الواقعي، وهذا يتجلى بموضوعات أعماله”.
الحالة النفسية واللون
ومنذ سنوات الحرب شغل اللون الأسود والرمادي مساحة من لوحاته: “صرت أرى الرماديات والأسود، وأدخلت مرة على سطح اللوحة بعض اللون بصعوبة، فاللون يخضع مباشرة للحالة النفسية للفنان، ولفلسفة دخوله العمل”.
التقنية والعمل
أما التقنية فتشكّل نصف العمل لدى صابور إذ يستخدم تقنيات مختلفة، فيخلط المواد بالإضافة إلى الدهانات الزيتية والإكليريك والرماد والرمل والفحم وقلم الرصاص، كما يعمل على تضمين المواد الطبيعية في عمله، ومؤخراً احتفى بمعرضه “حارس الذاكرة 2” في قاعة ألوان الشرق في البحرين، إضافة إلى معرضه في الدوحة، وشارك في معارض احتفت بالمبدعين “الحب ليس كلمة”.
وتبقى كلماته منبعاً ثراً للبحث والتنفيذ “الفنّ عمل إنساني، موقف يسجل بالفكر، ويجسد بالتقنية”، وتبقى المعادلة البصرية فضاء مفتوحاً للتجربة والابتكار والاستنباط، بين المباشر والمضمر المختبئ داخل اللوحة.