تكتيك الصمت المرعب
علي اليوسف
لم تنجرّ المقاومة الفلسطينية مباشرة، في تكتيك الصمت المرعب، إلى الردّ المباشر على اغتيال قادة المقاومة الثلاثة. هذا التكتيك يعزى إلى التجربة التي اكتسبتها المقاومة بأن استفراد الكيان الصهيوني بكل فصيل مقاوم على حده بات من الماضي، وأن الدخول فرادى في معارك جانبية عبر استفزاز هنا واغتيال هناك أصبح خلف الظهر.
منذ الإعلان عن عملية اغتيال القادة الثلاثة، التزمت قيادة المقاومة ضبط النفس، بل فاجأت قادة الكيان الصهيوني بطريقة عملها المنسقة مع مختلف الفصائل، ضمن غرفة العمليات المشتركة، ووسط وعي كبير بعدم إعطاء الاحتلال ما يريده. ومن يرى الرعب داخل كيان الاحتلال يدرك حجم الإرباك الذي يعيشه بعدما خرجت المقاومة الفلسطينية عن المألوف في الردّ الذي لم يكن في حسبان قادة الكيان الإسرائيلي.
تأخر المقاومة في الردّ أوقع نتنياهو في ورطة داخلية جديدة، إضافة إلى أزمته القضائية، إذ إنه فتح الملاجئ، وغادر أكثر من 7 آلاف مستوطن منطقة ما يسمى “غلاف غزة”، وما يتبعه من أعباء مالية، لأنه في حال لم تدفع لهم “الحكومة” التعويضات بشكل سريع، فإن ذلك سينقلب سخطاً على نتنياهو وحكومته.
وهذا التكتيك الجديد أعطى المقاومة القدرة على التجهيز لردّ كبير ومؤثر وموازٍ لجريمة الاحتلال بعيداً من الردود الانفعالية، وأفسد المخطط الإسرائيلي الذي يريد أن تكون المعركة تحت عنوان الرد على عملية اغتيال، ومنع العدو من الاستفراد بفصيل دون الآخر أو بجبهة دون أخرى، وأدخل الحيرة والقلق إلى “الجبهة الداخلية” في الكيان، وعقد قدرة الاحتلال على تقدير الموقف.
والواضح من هذا التكتيك أن المقاومة تعمل على جعل الاحتلال يتكبّد أثماناً في أمنه ورفاهيته واقتصاده، وأنها تضرب في الخاصرة الرخوة، وهذا ليس إلا نموذجاً عن الحرب غير التماثلية. بمعنى أن هذا النوع من التكتيك الجديد يتعدى إطار ترسيخ قواعد الردع، ويتجاوز ذلك إلى حرب إرادات يصبح فيها العامل الحاسم هو قدرة كل طرف على التحمّل.
هذا المعطى الشديد الأهمية يضيء على حقيقة أن المقاومة تعلم جيداً أن جيش الاحتلال لديه تفوق عسكري في الوقت الحالي، وتعلم أيضاً أن موازين القوى ليس في مصلحتها. صحيح أن المقاومة تتحمل الجراحات، لكنها تستمد تشجيعاً كبيراً من وقوفها بوجه عدو متطرف مدعوم من كل دول العالم تقريباً، لهذا السبب تبقى المقاومة واقفة على قدميها، ويُضاف مدماك آخر إلى ثقتها بنفسها، وتتعزز من مواجهة إلى أخرى. وهنا ربما ينتقل هذا التكتيك إلى حرب متعددة الجبهات أكثر مما يمكن أن يتحمّله الكيان الصهيوني، وربما تكرار لـ “سيف القدس” بنسخة جديدة وقلب السحر على الساحر، أي قواعد ردع جديدة تؤدي إلى نتائج معاكسة للأهداف التي خرجت من أجل تحقيقها المستويات السياسية والأمنية داخل الكيان.
لكن الواقع غير ذلك على الإطلاق، لأن عملية اغتيال القادة الثلاثة ليست لمستويات أمنية وسياسية كما يدّعي قادة الاغتيال، بل هي بكل تأكيد استجابة من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو لضغوط وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير وشروطه من أجل العودة للتصويت لمصلحة الحكومة، وخاصة تنفيذ السياسات اليمينية والعودة لسياسة الاغتيالات، وإن هدف نتنياهو الشخصي هو إرضاء أركان ائتلافه من الصهيونية الدينية المتشددة، إذ لا خيار أمامه إلا الإذعان لشروطهم للحفاظ على الائتلاف من الانهيار. ومن حيث التوقيت، يريد نتنياهو مواجهة استطلاعات الرأي التي تظهر تراجعاً كبيراً في شعبية ائتلافه. كما يريد نتنياهو تأمين “مسيرة الأعلام” الاستيطانية المقررة في 18 أيار الجاري، ويصرّ اليمين المتطرف على مرورها بباب العامود في القدس المحتلة، حتى لو كان الثمن تصعيداً مع الفلسطينيين، ولذلك أراد توجيه ضربة استباقية يعتقد أنها ستعزل غزة عن أي تطورات محتملة. ويتعلق الهدف الأبعد بالتطورات داخل السجون عقب استشهاد الشيخ خضر عدنان، ونتنياهو يدرك أن ملفه لم يغلق مع المقاومة الفلسطينية، وسيكون لها ردّها على استشهاده واستمرار احتجاز جثمانه. أما الهدف الأخير فيرتبط بإدراك إسرائيل لتأثير غزة على حالة المقاومة في الضفة، وتنامي أداء مجاميع المقاومة التي بدأت تتشكل في المدن والمخيمات، وهي تريد مجابهة هذه الحالة والاستفراد بها عبر تحييد غزة وفصل الساحات عن بعضها.