انتخابات تركيا على “حد السكين”
عناية ناصر
سيتوجه الأتراك في 14 أيار الحالي إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في انتخابات رئاسية وبرلمانية، حيث تعد التحالفات والقادة المتنافسون بحلول ومقاربات متميزة للتحديات المنتظرة. ومن عواقب النتائج المختلفة الهزيمة المحتملة للرئيس الحالي رجب طيب أردوغان ولحزبه “العدالة والتنمية”.
ومع ذلك، فإن الحقيقة هي أن الأيام المضطربة تنتظر تركيا في حال هُزم أردوغان بعد عشرين عاماً من حكمه، وذلك لأن النظام السياسي التركي منقسم ومستقطب بشدة، وتحتاج تركيا إلى خريطة طريق محددة جيداً للانتقال السياسي. علاوة على ذلك، تمثل التغييرات السياسية الهيكلية التي تعهد بها تحالف المعارضة بقيادة “حزب الشعب الجمهوري”، ورئيسه كمال كيليجدار أوغلو، تحولا كاملاً في النظام. وستكون عملية الانتقال صعبة حيث ستواجه الحكومة الجديدة ثلاث مشاكل ملحة، وهي الاقتصاد، ووضع مؤسسات الدولة، والحكم وسط الفوضى على جميع مستويات المجتمع والسياسة. لكن أكثرها إلحاحاً هو الوضع الاقتصادي المزري الناجم عن سوء الإدارة، والذي تفاقم بسبب الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا في 6 شباط الماضي.
تقدر تكلفة الزلزال ما بين 8 و 12 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مبلغ هائل جداً، وبالنظر إلى مدى ضعف أداء حكومة أردوغان بعد الزلزال، فإن التوقعات بأن الحكومة الجديدة ستعيد تأهيل الضحايا بسرعة، والبنية التحتية للمناطق المتضررة ستكون كبيرة. ومع ذلك، فإن مثل هذه النفقات سوف تتعارض مع إدخال المزيد من السياسات الاقتصادية التقليدية، بما في ذلك رفع أسعار الفائدة. وفي مثل هذه البيئة الصعبة، يجب على الحكومة الجديدة أن تكسب الدعم المحلي من خلال أن تصبح شفافة، وصادقة قدر الإمكان في شرح، وتوضيح سياساتها للجمهور الذي فقد الثقة خلال العقد الأخير من حكم أردوغان.
تحتاج قاعدة التصنيع التركية إلى مضاعفة جهودها لزيادة وتنويع صادراتها، جغرافياً في المقام الأول، وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر مرة أخرى، وستحتاج تركيا إلى مساعدة خارجية كبيرة لإنجاز ذلك، والحصول على أموال لإعادة الهيكلة، ومن المحتمل أن يأتي هذا الدعم بشكل أساسي من الولايات المتحدة وأوروبا.
التحدي الثاني هو تنفيذ انتقال لا مثيل له في تاريخ تركيا الحديث، وذلك لأن أردوغان، خلال فترة حكمه، هو السياسي الشعبوي الاستبدادي الذي وضع تركيا ومؤسساتها المجتمعية ذات الأهمية تحت سيطرته، بدءاً من النظام القضائي إلى البنك المركزي، كما تم تجريد الجامعات الحكومية ومعظم الصحافة والبرلمان والجيش والبيروقراطية من استقلاليتهم. ومع ذلك، لا يمكن لأي شيء المضي قدماً دون إعادة إرساء سيادة القانون أولاً. بالإضافة إلى أن أنه لا يمكن للمرء جذب الاستثمارات في بيئة يتم فيها انتهاك القواعد القانونية باستمرار. وبناءً على ذلك كيف ستتعامل الحكومة الجديدة مع التوقعات المكبوتة بشأن الإنصاف والعدالة في بلد سُجن فيه الآلاف بشكل تعسفي أو طُردوا من وظائفهم ومهنهم؟
وتتمثل المهمة الثالثة في إنشاء هيكل حكم متماسك من مجموعة متباينة تماماً من الحلفاء في التحالف والشركاء الخارجيين أثناء معالجة القضايا الأولية والمثيرة للانقسام التي تفصل بينهم. ومن الواضح أن التركيز سيكون على الوعد بالعودة إلى النظام البرلماني، والتخلص من النظام الرئاسي المفرط، وستتطلب هذه المهمة الكبيرة تخطيطاً ونقاشاً دقيقاً وبضع سنوات لإنجازها.
فاق زعيم المعارضة، كيليجدار أوغلو، الذي ينتمي إلى خلفية بيروقراطية، كل التوقعات من خلال إدارة حملة ذكية وأسلوب الهدوء وعدم المواجهة، وذلك في تناقض صارخ مع أردوغان، الذي بذل قصارى جهده لتوظيف خطاب مثير للانقسام حيث اعتُبرت الانتقادات الموجهة للرئيس خيانة وتستحق المحاكمة.
قدم كيليجدار أوغلو نفسه على أنه القائد الانتقالي المثالي، حيث ينظر إلى المعارضة على أن لديها العديد من النجوم الكاريزمية الصاعدة، وكلهم متحمسون للعب دور أكثر أهمية. في حين أنه قد يكون المشكلة في بداية إدارة جديدة، إلا أن تنوعها في الخلفية والخبرة والنظرة العالمية سيجلب الديناميكية التي تشتد الحاجة إليها للسياسة التركية.
من المفارقات أنه عندما تولى أردوغان السلطة في أوائل العقد الأول من القرن الحالي، كان قد جمع مجموعة واسعة من الشخصيات السياسية المخضرمة وآخرين من مختلف مناحي الحياة، لكن لسوء الحظ، مع مرور الوقت تم إهمالهم جميعاً لصالح “رجال الدمى”. كما ويتمثل أحد التحديات المباشرة للحكومة الجديدة في إدارة الإحباطات المكبوتة لدى المؤيدين الذين يشعرون أنهم تعرضوا للظلم خلال أسلوب الحكم الحزبي المتشدد للغاية للإدارة الحالية.
وبالنسبة لأولئك الذين كانوا في معسكر أردوغان، حتى لو كانوا قد أعدوا أنفسهم لهزيمة محتملة، تظل الحقيقة أنه سيتم سحب البساط من تحتهم. وفي ظل غياب المؤسسات الحزبية التي يمكنهم اللجوء إليها للحصول على الدعم، سيجدون أنفسهم بدون حماية، وبالتالي سيخشون على مستقبلهم القادم. وهؤلاء هم رجال الأعمال، وخاصة البنائين الذين اتهموا بالفساد والمحسوبية، وقادة الصحافة الموالية لأردوغان ، والقضاة والمدّعون العامّون الذين ابتكروا، بأوامر من القصر الرئاسي، نظريات مؤامرة خرافية “شرّعت” سجن المعارضين، وقيادات جامعية غير مؤهلة تسببت في طرد أساتذة اعتبروا غير موالين للنظام بما فيه الكفاية.
كما تعتبر الصحافة، سواء المملوكة للدولة أو الخاصة، قضية شائكة بشكل خاص، حيث حاولت حكومة أردوغان تجويع المنافذ “غير الموالية” من خلال إجبار المحطات التلفزيونية والمواقع على الإغلاق مؤقتاً أو منع كيانات الدولة، سواء كانت بنوكاً أو وزارات مملوكة للدولة، من الإعلان في الصحف “المعارضة”. وفي الوقت نفسه، أغدق الاهتمام والموارد على أعضاء الصحافة المهيمنة المؤيدة لأردوغان الذين تعاونوا بنشاط في قمع معارضي النظام من خلال تكريس الاتهامات المفبركة ضدهم.
هل سينسحب أردوغان، الذي لديه حاشية كبيرة للحماية، بالإضافة إلى مؤيديه وحلفائه في الصحافة والبيروقراطية والقطاعات الأخرى، أم أنه سيلجأ إلى تقويض عملية التصويت، أو تجاهل النتيجة، أو حتى إثارة تمرد على غرار ما حدث في الولايات المتحدة في 6 كانون الثاني، لينتهي به الأمر في الذاكرة على أنه القائد التركي الذي “تطفل على المنصب كترامب”، مدعياً أن الانتخابات قد سُرقت وملقياً بلاده ومواطنيها في حالة من الفوضى؟
لقد جرب ذلك مرة واحدة عندما خسر حزبه رئاسة بلدية اسطنبول في عام 2019، ولفق ذريعة لإعادة الانتخابات المحلية، إلا أن ذلك أدى إلى نتائج عكسية عليه، حيث صوت سكان اسطنبول بأعداد أكبر بكثير لمعارضته. ومن ثم لم يكن أمام المجلس الانتخابي الأعلى خيار سوى اتباع رغبات أردوغان غير القانونية بسبب سلطويته وعنجهيته. وهذه المرة، قد يكون الأمر مختلفاً حيث هناك مؤشرات على استعداد بعض أعضاء المحكمة الدستورية لتحديه.
ختاماً، يمكن القول إن سباق الرئاسة في تركيا هذه المرة معلق على حد السكين، خاصة وأن آخر استطلاعات الرأي تشير إلى حصول أردوغان على نسبة 42.5 مقابل 48.5 في المئة حصل عليها منافسه كليجدار أوغلو.