زمن الدهشة والحلم
سلوى عباس
في زمن علا فيه الصخب والضجيج، يغادرنا عمالقة زمن الدهشة والحلم، مبدعاً تلو الآخر، عباقرة تنضح ملامحهم بشفافيّة الروح والإحساس الجميل الذي كنّا نعيشه مع إبداعاتهم، لكنهم ربما لم يستطيعوا تحمّل مفارقات الحياة وتناقضاتها فقرّروا الرحيل، وهذه الأيام قاسية جداً في غياباتها، ضجّت بخسارات متوالية، واحدة تلو أخرى، وبرحيلهم ننعي زمناً كان حافلاً بالإبداع والمبدعين الذين نظروا للإبداع في كلّ مجالاته كحالة من الشغف المهني والترف الفكري والمعرفي، فبالأمس ودّعت الأوساط الفنية العربية فناناً من زمن له صداه الخالد في وجداننا، تلقى أبجدية الفن الأولى من المدرسة الرحبانية، وبعدها اختط طريقاً خاصاً به ليشكل مسيرة بهية من الفن الراقي أثرى بها المكتبة الغنائية والتمثيلية بأعمال لا تُنسى، حيث رحل الفنان إيلي شويري، وبرحيله طوى صفحة على مرحلة ذهبية من تاريخ الفنّ العربي، عاصر خلالها عمالقة الطرب واللحن، وجايل مراحل أخرى أصبح أصحابها من الكبار.
كما غادرنا منذ أيام د. فايز الصايغ القامة الإعلامية والأدبية الوطنية التي شكلت علامة فارقة ومتميّزة في الإعلام السوري والعربي، إذ كان الإعلام بالنسبة له رسالة وأمانة تجاه جيل من الإعلاميين الشباب الذين أعطاهم الكثير من وقته وجهده لتمكينهم من إثبات وجودهم على الساحة الإعلامية السورية والعربية، فكانت مؤلفاته وأبحاثه الفكرية والسياسية والنقدية وكتاباته الأدبية مدرسة تعلمنا منها جميعاً كيف نحتضن تناقضات هذه المهنة المتعبة والشيقة بآن معاً، فكان رجلاً مثالياً بقيمه وأخلاقه ومهنيته العالية ورؤاه الإنسانية الصادقة، وبغيابه نرثي زمناً جسد فيه د. فايز الصايغ ورفاق دربه حلماً سورياً سيبقى نابضاً في روح كلّ إعلامي يشكل الإعلام هاجسه الأجمل.
أيضاً تودّع الأوساط الفنية السورية والعربية اليوم مبدعاً من نوع خاص جداً ظلّ قادراً على الاستمرار في التألق والنجومية في كلّ الأوقات، لم يستطع الزمن أن يهزمه ويسلب منه مقدرته الفائقة على أن يصبح شيخ الدراما السورية، لكن فجأة توقف الحلم عن النبض وتبخرت الآمال، حيث غادر دنيانا أمس المخرج هشام شربتجي لينضمّ لزملاء مبدعين رحلوا عنا قبل أن يكتمل رحيق جناهم، رحل ليكون بجوار كثير من المبدعين السوريين والعرب الذين حملوا في وجدانهم كلّ أحلام العالم، ليرحلوا دون أن يحقّقوا منها إلا الجزء اليسير، وكأن قدر المبدع أن يقضي دون تحقيق الحلم الذي يناضل من أجله حتى الرمق الأخير في حياته، وكم تتشابه حياة المبدعين، حيث يناضلون ويتحدّون الحياة وصعابها بإبداعهم الذي يحاربون عبره القبح بالجمال.
يعدّ هشام شربتجي أحد أبرز مؤسّسي صناعة الدراما في سورية وأبرز المخرجين عبر تاريخ الدراما السورية والعربية، ومن مكتشفي النجوم خلال العقود الأخيرة، عشنا أجمل اللحظات مع أعماله التي لامست وجداننا، فوقفنا أمام مراياه بأجزائها المتعدّدة التي عكست همومنا ومتاعبنا، وكشف خفايا الطربوش وتناقضات الحياة عبر مسلسله “رجال تحت الطربوش”، وكان رفيق أوقاتنا بحلوها ومرّها عبر مسلسله “أيامنا الحلوة”، كما كشف لنا في “أسرار المدينة” تفاصيل هذا العالم المترامي الأطراف والغموض الذي يكتنفه، وكنا شهوداً معه على الزمن وصراعاته في مسلسله “صراع الزمن”، وبحثنا معه عن هوياتنا الضائعة في زمن المفارقات المؤلمة في مسلسل “البحث عن الهوية”، وعندما هبّت رياح الخراب على بلادنا رصد عبر “أزمة عائلية” التخبطات التي عشناها جميعاً جراء هذه الحرب، وفي عمله الدرامي السوري اللبناني “مذكرات عشيقة سابقة”، يروي قصة تفاعل وصراع الحب والنفوذ والقوة مع الخيانة والضعف، إضافة إلى مواضيع مجتمعية مهمّة ومتنوعة.
تاريخ طويل من الإبداع الدرامي خطّه المخرج هشام شربتجي بماء الشغف الذي سكن روحه، لكن حكم القدر كان أسرع، فلترقد روحه وأرواح مبدعينا الذين غادرونا بهدوء وسلام، وستبقى مساحة الحلم التي تركوها لدى محبيهم وأصدقائهم شاهدةً على مسيرة إبداع لن تُنسى.