العصر الصيني على الطريق
ريا خوري
ما زالت جمهورية الصين الشعبية ماضية في تحقيق مشروعها الاستراتيجي “الحزام والطريق” من أجل ربط الصين بالعالم، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية. ولهذا الغرض، تستعدّ الصين لاستضافة قمة تجمعها بقادة دول آسيا الوسطى، كازاخستان وطاجيكستان وقرغيزستان وتركمانستان، وهي دول تحتلّ مكانة جوهرية في مشروع “الحزام والطريق”، لأنها ستكون معبر سكة الحديد بين الصين والاتحاد الأوروبي، الذي يميل إلى ترتيب أولوياته الاقتصادية، وعدم الممانعة في الانخراط في هذا المشروع العالمي، على الرغم من العراقيل التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وضعها، دون جدوى.
ونتيجةً لتردّد بعض الدول الأوروبية قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بتوكيل وزير خارجيته تشين غانغ للقيام بجولة واسعة تشمل ألمانيا وفرنسا والنرويج من أجل دعوتهم للانضمام إلى هذا المشروع. مع العلم أنّ هناك رابطاً مباشراً بين القمة المزمع عقدها مع قادة دول آسيا الوسطى، وجولة وزير الخارجية تشين غانغ، فالأولى غير مسبوقة، وستشهد توقيع وثائق سياسية غاية في الأهمية ستمهد لأكبر تحرّك صيني في دول سوفييتية سابقة، لا يخرج عن خطة القيادة الصينية في ترسيخ قوة الصين ودورها ضمن العالم المتعدّد الأقطاب الذي تدافع عنه. أما الجولة الأوروبية لتشين غانغ، فتأتي تأكيداً على فاعلية الدبلوماسية الصينية المتنامية عبر عدة ملفات وقضايا مهمّة، كما تسعى إلى فرض نفسها على الآخرين بما تملكه من قدرات، وإمكانيات اقتصادية هائلة ممن يرفضون التعامل معها أو يتوجسون منها مستقبلاً، وخاصة في دول الاتحاد الأوروبي المنقسمة على نفسها بين متخوّف من الذوبان وسط القوة الصينية المتصاعدة، ومن لم يتحرّر بعد من التبعية للولايات المتحدة الأمريكية الخصم اللدود للصين.
من عادة الدبلوماسية الصينية ألا تكشف أوراقها في العلن وتعمل دائماً بصمت، إلّا أنّ طبيعة هذه المرحلة الحاسمة واستحقاقاتها تتطلّب لغة جريئة في بعض الأحيان حتى تكون التوجهات والخطوط واضحة لا لبس فيها. ففي العاصمة الألمانية برلين، وأمام نظيرته الألمانية أنالينا بيربوك، قال وزير الخارجية الصيني تشين غانغ: “إن بكين تدعم مسار التنمية الذي اختارته الشعوب الأوروبية الساعية لحياة أفضل، وتدعم أوروبا، لتحقيق استقلال استراتيجي حتى لا تكون تابعة لأي طرف بما فيه الولايات المتحدة المهيمنة على القرار الأوروبي”.
الأوروبيون أنفسهم ما زالوا مختلفين ومتناقضين حول معايير المكانة الدولية التي يطمحون إليها، فبينما يدفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جعل الاتحاد الأوروبي قوة عظمى ثالثة، ويملك أكبر قدر من الاستقلال الاستراتيجي، يقف مستشار ألمانيا الاتحادية أولاف شولتس على النقيض. وبعيداً عن هذين الموقفين هناك قوى اليمين الشعبوي المتطرف الذي يتربّص بكل التوجهات السياسية، ولديه وجهة نظر مختلفة ما زالت تنتظر نتائج الحرب في أوكرانيا.
صعود الصين المتسارع في جميع المجالات، الذي يعتبره الأمريكيون التحدّي الأكبر، حرّك كثيراً من الخطط والطموحات والمشاعر. ومنذ أكثر من عامين أصبحت الصين وروسيا من أكثر الدعاة إلى عالم متعدد الأقطاب، على الرغم من أنّ المفهوم الدولي لم يتبلور بمعانيه ودلالاته بشكل كامل، بينما الواقع الأقرب يشير إلى أن القطبية المنتظرة ستتعلق بفضاءات واسعة جداً محورها دول عدّة منسجمة المصالح والأهداف. وبينما هناك كيانات ودول مهدّدة بالتفكك مثل الاتحاد الأوروبي والذي بدأته بريطانيا بالانسحاب، تعمل الصين على بناء فضاء واسع ضمن مجموعة من التكتلات كـ”بريكس”، و”شنغهاي”، و”الاتحاد الأوراسي”، الذي يضمّ دولاً عظمى أخرى معروفة عالمياً، وكلّها تجمعات تلعب فيها الصين دوراً محورياً حتى يتشكل حينها العصر الصيني القوي الذي يبدو أنه حتماً سيتحقق ولا مهرب منه أبداً.