الفلاح ينثر البذار والتاجر يحصد الثمار.. إلى متى يستمر هذا الإجحاف في ظل غياب الدعم والتسويق؟!
تظهر معاناة الفلاحين بصورة جليّة عند قطاف ثمار كل موسم، فمع انعدام وجود آلية واضحة لتسويق المنتج الزراعي المحلي، تشرع الأبواب أمام التّجار للتلاعب بالأسعار عن طريق استغلال المزارعين وشراء محاصيلهم بأسعار زهيدة وبيعها للمستهلك بأسعار مضاعفة، ما يؤدي لخسائر كبيرة للمزارعين، وصعوبات تعترضهم في تغطية تكاليف الإنتاج الباهظة.
نزرع ليحصدوا!
في حديث مع عدد من الفلاحين في سهل الغاب أكدو أن تكاليف مستلزمات الزراعة، تحتسب على الفلاح بسعر الصرف على اعتبار أن دعم الحكومة محدود، لكن هذا الأمر لا يتحقق عندما يريد تسويق منتجه، فعلى سبيل المثال، تمّ بيع كيلو البازلاء في سوق الهال بـ2000 ليرة وهو سعر يظلم الفلاح الذي يزرع ليحصد التاجر ما زرعه!.
وبخصوص تسعيرة القمح الأخيرة، أيضاً يرى الفلاحون أنها مجحفة جداً، وبعضهم رأى أن الاتجاه لزراعة الكمون بات أفضل لأن سعر الكيلو منه حالياً أكثر من 38 ألفاً وكذلك زراعة حبة البركة التي يبلغ الكيلو منها 15 ألف ليرة، وبرأي الفلاحين هذا هو الحل الأضمن لعدم الخسارة بدلاً من زراعة القمح، علماً أنه محصول إستراتيجي ويجب دعمه بشكل حقيقي يشجع الفلاح على زراعته بدلاً من التوجه لزراعات أخرى أكثر جدوى.
الصيد الثمين
الخبير الزراعي معن نبهان يرى أن القرارات المتعلقة بتقدير القيمة المادية للمحاصيل من قبل الحكومة، لا تمتّ للواقع بصلة، فهي ظالمة للفلاح ومرضية أكثر للسماسرة والتجار الذين يرون في محصول الفلاح صيداً ثميناً لملء خزائنهم!. وأضاف: عندما يرى الفلاح التباين الكبير بين سعر القمح المحدّد من الحكومة والسعر في أماكن الجوار ، سيمتنع عن تسليم محصوله للحكومة أو يحاول التهرب من التسليم إن استطاع ذلك، وبالتالي ستقوم الأخيرة باستيراده بالسعر العالمي يضاف إليه أجور النقل ومثيلاتها، لتكون النتيجة إفقار المواطن والمزارع معاً وتهديد الأمن الغذائي.
وبيّن الخبير الاقتصادي الدكتور محمد علي حسين أن تراخي المعنيين عن مسؤولياتهم تجاه المواطن، أعطى للتاجر الصلاحية المطلقة للتحكم بالسوق، وبات الفلاح والمستهلك معاً هما الحلقة الأضعف، فالفلاح لا يستطيع إيصال محصوله إلا عبر التاجر الذي يكون له الحصة الأكبر من المنتج، خاصة وأنه يمتلك البرادات المجهزة للتخزين لوقت طويل، فيتصيّد المواطن حين ارتفاع الأسعار ليطرح ماخزنه بالسعر الذي يريده، فيدفع المواطن والمستهلك معاً الثمن، لذلك يجب أن يكون التسويق إما عن طريق الأسواق الشعبية التي تقام في كل منطقة وقرية وسوق من الأسواق المتواجدة على الجغرافيا السورية لضمان تسويق المنتج الزراعي من الفلاح للمستهلك بشكل مباشر، أو عن طريق الدولة التي يجب أن تتدخل بكافة السبل.
مسؤولية الفلاح
لكن بالمقابل حمّل بعض الخبراء الزراعيين الفلاح مسؤولية خسائره، بسبب الرضوخ في بعض الأحيان لتسعيرة التجار الذين يستجرون محصوله، وفي الوقت ذاته يلجأ للإعلام ولمواقع التواصل الاجتماعي ليبث شكواه عبرهما ويحمّل الحكومة تداعيات خسائره! وقال آخرون: إن سبب البيع للتاجر وما يحدّده من سعر والرضوخ ناتج عن حاجته للسيولة، سواء إن كان لسداد الديون أو لتأمين متطلبات الحياة الضرورية.
توعية المزارعين
وأكد المهندس باسل الحموي مدير شركة تجفيف البصل والخضار، أن المشكلة تكمن في ثقافة مزارعينا، وهنا يأتي دور الإرشاد الزراعي والجمعيات الفلاحية في تعزيز مفهوم المسؤولية المجتمعية والوطنية، والتعاون مع سائر جهات القطاع العام التي تضمن حماية المنتج الزراعي وتقييم الكلفة الحقيقية لكل منتج ليتمّ وضع سعر رسمي يضمن هامش ربح دائماً للمزارع، وفي حال وجود فائض من الإنتاج يجب أن يتمّ مراسلة الجهات ذات الصلة لتصريف هذا المنتج سواء بتصنيعه أو تجفيفه أو خزنه وبالسعر الموضوعي وحسب الحاجة، وفي حال النقص في الإنتاج يجب أن يتم أيضاً التنسيق لمعرفة حاجة السوق وضبط السعر، مشيراً إلى أن الشركة البصل قدمت العديد من المحفزات لمزارعي البصل الأبيض لتشجيعهم على التعاقد معها وتسليم محصولهم، وتم وضع دراسة حقيقية لتكلفة إنتاج الكيلو من البصل الطازج عن طريق لجنة شارك في عضويتها عضو من مديرية الزراعة ومن اتحاد الفلاحين، وتم وضع هامش ربح جيد للمزارع بنحو 30% هذا إضافة لتأمين نقل المحصول بسعر رمزي جداً ومؤجل الدفع، وكذلك المساعدة بتأمين كمية محدودة من المازوت الزراعي والسماد حسب الإمكانية والظروف وتسليمهم البذار بسعر مؤجل الدفع وإعطاء سلفة لمن يحتاج، إلا أن المزارع يقع دائماً فريسة لطمع وجشع التجار، فيقوم بالتعاقد معهم وتسليمهم محصوله من أرضه، وهنا يتحول الربح من المزارع إلى التاجر الذي يقوم باحتكار المنتج والتحكم بسعر السوق، حتى أنه يفرض على المزارع نفسه سعر البذار للموسم القادم، لذلك نؤكد هنا على أهمية دور الوحدات الرشادية والجمعيات الفلاحية للتعاون مع الشركة في توجيه وتوعية المزارعين لأهمية مؤسسات الدولة في ضمان حماية منتجهم من تحكم التجار وضمان ربحهم وتأمين سلعة تتناسب مع إمكانية المستهلك بآن واحد.
سوء إدارة
واعتبر الخبير التنموي أكرم عفيف أن ما يحصل اليوم هو أمر مشين، ليس لجهة خسارة الفلاح فقط بل لجهة عقلية صانعي القرار وسوء إدارة الموارد، وكأن هدفهم يقتصر على تدمير العملية الإنتاجية، خاصة وأن الفلاح يقوم بشراء كافة مستلزمات الزراعة بأسعار عالمية، فعندما حدّدت الحكومة سعر لتر البنزين المدعوم بـ3000 ليرة قام المزارع بشرائه من السوق السوداء بـ10 آلاف وأحياناً بـ15 ألفاً أثناء نقص المادة، وكذلك بالنسبة لمازوت السقاية والفلاحة وما إلى ذلك.
ويتضح سوء الإدارة في غالبية المحاصيل، فمنذ حوالي 8 أعوام تمّ وضع تسعيرة للشوندر السكري لم تتجاوز 25 ليرة في ذلك الوقت، فأقلع الفلاح عن زراعته ما أدى لتضرر الأغنام لأن نواتج الشوندر الورقية يتمّ تجفيفها لاستخدامها في إطعام الأغنام في الشتاء، لكن مع تدهور الشوندر السكري لجأ مربو الأغنام للتبن المحلي والأعلاف المستوردة غالية الثمن، ما أدى لتراجع الثروة الغنمية بشكل ملحوظ وبيعها بأسعار رخيصة للذبح مع ارتفاع تكاليف تربيتها.
ومن الأمثلة أيضاً، عندما حدّدت الحكومة سعر التبغ بـ7000 ليرة كحدّ أقصى، عزف الفلاح عن زراعته، علماً أن التبغ كان يشكل مصدر دخل للعديد من طلبة الجامعات والنساء من كبار السن نظراً لسهولة العمل به وتحقيقه دخلاً لا بأس به لهؤلاء كونه زراعة أسروية.
وتساءل عفيف عن سبب انسحاب الحكومة من العملية الإنتاجية وعن عدم تدخل السورية للتجارة، علماً أن التجارب السابقة أثبتت نجاعتها في هذا الأمر، عندما استجرت السورية للتجارة في حماة كميات من محصول الخس عبر التعاقد مع الفلاحين، ومحاولاتها هذا العام للتدخل بالفول والبازلاء.
دور الاتحاد
يؤكد رئيس اتحاد الفلاحين في حماة حافظ سالم، أن المحافظة تعتبر رائدة في زراعة كافة المحاصيل سواء أكانت المحاصيل الإستراتيجية أو البقوليات والمحاصيل العلفية، مشيراً إلى أن تدخل فرع اتحاد حماة في تسويق المنتجات الزراعية سيشمل كافة المحاصيل وبشكل سريع عن طريق السورية للتجارة والعمل على هذا الأمر دون وسيط لمنع ظلم الفلاح، وقد تمّت المباشرة بهذا الأمر حالياً بمحصول الثوم.
خطة تسويقية
وفي السياق نفسه دعا المهندس حيدر اليوسف مدير السورية للتجارة إلى ضرورة وضع خطة تسويقية أسوة بالخطة الزراعية، تتضمن التسويق والتصنيع والتصدير في حالة الوفرة، مؤكداً متابعة فرع حماة استجرار الخضار من المزارعين، حيث بلغت الكميات حتى اليوم 50 طناً من البصل، و25 طناً من البازلاء و10 أطنان من البازلاء الحب، و7 أطنان من الفول، و9 أطنان من الثوم وهي بازدياد بشكل يومي، كما يتمّ الآن تجهيز وحدات التبريد لاستقبال موسم البطاطا خلال الأيام القليلة القادمة.
تسويق تعاقدي
المهندس الزراعي محمد جغيلي، اعتبر أن الحلّ لخلق سعر متوازن في السوق يضمن عدم خسارة الفلاح تزامناً مع توفر المنتج للمستهلك بسعر مناسب يحتاج لعدة إجراءات، بدءاً من اتحاد فلاحي سورية وغرف الزراعه، إذ يتوجب عليهم أن يأخذوا دورهم في الإنتاج وإدارة عمليات الخدمة والتسويق والإنتاج، وتشكيل جمعيات متخصصة ونوعية وإحداث مؤسسات التأمين لكافة القطاعات الإنتاجية الزراعية لضمان استمرارية المنتج والمزارع في حال تعرضه للخسارة أو لظروف جوية قاهرة، إلى جانب سنّ القوانين والتشريعات الخاصة والعامة فيما يخصّ العمل الزراعي بكافة مجالاته والاستثمار فيه وتشكيل وإحداث صناديق دعم واستثمار للمشاريع الفلاحية الإنتاجية الجديدة والقائمة وغيرها الكثير.
وأكد جغيلي أيضاً ضرورة إيجاد حلول للمشكلة التسويقية عن طريق الزراعة التعاقدية، سواء لشركات خاصة أو عامة أو لأشخاص، والتزام الجهة المسوقة بتسويق المنتج بأكمله مع ضمان عدم خسارة الفلاح.
ويبقى السؤال ذاته يتكرر كلّ عام في ظل غياب الخطط التسويقية للمحاصيل، من الذي يتحمّل مسؤولية ما سيؤول إليه الواقع الزراعي في سورية بعد أن ضاقت السبل بالمزارع الذي يتلقى الصفعات في كلّ موسم؟!.
حماة- حسان المحمد- ذكاء أسعد