“نداء الأرواح” لـ صفوان إبراهيم.. رواية بنزعة صوفية
نجوى صليبه
“في سيرة حياة أي شخص حدث فاصل يكون بعده غير ما قبله”، عبارة كثيراً ما سخر منها جعفر، بل كان يرى نفسه الاستثناء إذا كانت هي القاعدة، وكثيراً ما تساءل: ما هو الحدث الذي سيغيّر حياته الرّتيبة، فبرأيه: “لا أحداث فاصلة في حياة الفقراء إلّا إذا أمطرت السّماء ذهباً بمقدار ما يملأ جرّةً فخاريةً كالتي تضعها والدته زينةً في إحدى زوايا المنزل، وكيف يحدث هذا وأنا الشّقي الذي لم يستطع طوال ثمانية عشر عاماً كسب رضا والديه أو على الأقل ودّ أحدٍ من الجيران”.. إنّه يسوّغ الخطأ على أنّه سوء تفاهم، أو يتمسّك فيه حتّى يملّ والداه من توبيخه، إلى أن ينتقل إلى مرحلة أخرى من حياته، وهي عمله في محل لتصنيع العطور الزّيتية، وهناك يعتاد على التّدخين وشرب النّبيذ والنّظر إلى أجساد جاراته من دون خجل، فلا قاعدة ولا مبدأ ولا عادة ثابتة لديه يسير عليها، لقد كان مؤمناً بأنّ حرّيته ملكه وحياته تخصّه وحده، مع أنّه يعرف أنّ النّاس تراه فوضوياً وعابثاً، لذلك لم يكن لديه أصدقاء محددين، وكان يعوّض عن ذلك بلقاءات قليلة مع أطفال تحت سنّ العاشرة أو نسوة فوق سنّ الخامسة والأربعين، والغريب في الأمر أنّه كان يترك أثراً فيهم يقلب الصّورة السّابقة.
تستمرّ حياة جعفر على المنوال ذاته إلى أن يقع حدثٌ فاصلٌ يغيّرها كلّها، وهو مرض والده بالسّل، ومرافقته له طوال فترة وجوده في المستشفى، وهناك يبوح لأبيه بحزنه لأنّ علاقتهما لم تكن جيّدة، وفي المقابل يبرّر الأب لابنه قسوته بالخوف من تفكيره الذي يشبه تفكيره أيّام الشّباب، يقول: “خشيت أن تصل بك الأفكار إلى الهوس، أنت تبحث عن شيء ما، ربّما ليس عن الشّيء ذاته الذي كنت أبحثُ عنه، لكنّه بأهمية أن يشكّل لديك هاجساً.. إن كانت أيّامي في هذه الحياة قليلة، فلنمضها بالكلام، أريد أن أبوح إليك ببعض أسراري”.
وهكذا بدأت جلسات البوح بالأسرار بالتّوازي مع جلسات العلاج، ومنها تعرّفه أيّام شبابه على رجل سوداني يبيع الفول السّوداني في حيّ الميدان بدمشق اسمه صدّيق محمد صلاح صدّيق، متمرّس في إيصال السّاعين إلى أي أمر يتعلّق بالله إلى مرادهم، طالباً منه أن يعده بزيارته، وموصّياً بـ “البيت الجديد للكبير لكي يتزوّج، والأرض للثّاني، وما ندّخره من مال للثّالث، أمّا أشيائي الخاصّة وكتبي للصّغير، وأنتِ – أي زوجته – تبقين في البيت القديم”، ويفسّر له ذلك في اليوم التّالي: “كانت مشيئة الله ألّا تتلّوث بالمال، كانت مشيئة الله ألّا تنشغل عن جنّتك بأمور تافهة، أنا فقط نفّذتها”.
يغمض الأب عينيه، ويقسّم جعفر أيامه بين عمله والقبر والنّوم في البيت، إلى أن يُطلب للخدمة الإلزامية ويلتحق بكلية الشّرطة ويُفرز إلى وزارة التّموين كرئيس لإحدى الدّوريات المرافقة لعناصرها الذين تمنّوا أن يرتاحوا منه بأقرب وقت نظراً لتطبيقه الصّارم للقانون، إلى أن شكاهم وعوضاً عن معاقبتهم ومكافأته، أعطاه المدير إجازةً مفتوحةً، ما اضطره إلى استئجار غرفةٍ صغيرةٍ والبحث عن عمل جديد، لتكون انطلاقته من حي الميدان الذي تحوّلت بيوته القديمة إلى مطاعم سياحية، وهناك يتذكّر وعده، فيسأل عن محل صدّيق، ويصل إليه بسهولة لأنّه معروفٌ من قبل سكّان الحي جميعهم، فيستضيفه في منزله الذي يسكنه وزوجته كوثر، وابنته ياسمين، التي تتحضّر للشّهادة الثّانوية، ويقول: “والد هذا الشّاب كان أوّل شخص صادقته في دمشق، في البداية ظننتُ أنّ جوعه ساقه إلى المحل، لكنّني اكتشفت لاحقاً أنّ مجيئه كان إلهاماً ربانياً له ليحقق الله مرادي من قدومي إلى الشّام”.
يعمل جعفر وصدّيق في محل الفول نهاراً، ويجتمعان والأسرة مساءً، وفي كلّ يوم يستعيد “صدّيق” جزءاً من مراحل حياته بدءاً من قريته التّابعة لمدينة أم درمان في السّودان، إلى تعرّفه على “درويش جوّال”، والحديث الرّوحي الذي كان بداية طريق البحث عن المعرفة، وتالياً سفره إلى دمشق التي أحبّها كما أم درمان، مركّزاً في كلّ مرّة على الحبّ والاحترام والعطاء والإيثار الذي كان يغلّف علاقته بعائلته وبكثير من الأشخاص الذين قابلهم، ومنهم الرّجل الذي تنازل له عن المنزل الذي يسكنه، وسيمنحه لاحقاً لـ جعفر قبيل سفره وعائلته إلى السّودان، راضياً عن رسالته التي أوصلها ومستكملاً إياه في أم درمان.
يقضي جعفر فترةً وحيداً ويقرّر اللحاق بالقلب والرّوح في السّودان ويتزوج ياسمين وينجبان طفلاً يسميانه حيّان، يكبر ويساعد والده في محل العطور. وفي يوم من الأيام تدخل فتاة إلى المحل وعيناها تدمعان فيقول لها: “يوماً ما دخلت محلاً لبيع الفول السّوداني، لم أكن جائعاً، كنت أحمل سلاماً من أبي لصاحب المحل، فمن هو ذاك الذي يحملك سلاماً لي؟ نحن هكذا البشر أرواحنا تهيم في الفضاء لتجد الرّوح الأمّ فتتحد معها وأفكارنا سلسلة طويلة كلّ عقل يشكلّ حلقة فيها.. قولي يا ابنتي وفسّري سرّ بكائك عسى أن يكون الحبّ.
ـ إنّه الحبّ يا عمّ..”.
“نداء الأرواح” رواية تتّسم بنزعة صوفية يقدّمها الرّوائي صفوان إبراهيم ـ في زمن ما عاد للصّوفية وجود في معظم المنتوج الأدبي ـ بسردية ممتعة طالت قليلاً في بعض الأماكن، وحواريات متكافئة نوعاً منها من حيث محبة الحصول على المعرفة ومنحها، بما فيها تلك التي جمعت جعفر وياسمين، وقاربت روحيهما وولّدت حبّهما العميق.
يُذكر أنّ الرّواية صادرة عن دار بعل بطبعة أولى عام 2021، وحاصلة على جائزة “التّكافل الاجتماعي في زمن الكورونا” للإبداع الرّوائي (2020)، التي أطلقها حينها رئيس فرع دمشق لاتّحاد الكتّاب العرب الدّكتور محمد الحوراني، تحفيزاً للكتّاب في سورية والوطن العربي واستثماراً لوقتهم في مواجهة تلك الجائحة.