ثقافةصحيفة البعث

“على وشك” للكاتبة لمى طاهر علي.. فنانة “اللحظة المأزومة”

تمّام بركات 

يجزم الروائي الألماني هرمان هسه (1877 – 1962) أن الروائي يبدأ حياته الأدبية شاعراً، ثم ينتقل إلى كتابة القصة القصيرة، قبل أن يستقر في عالم الرواية.. صاحب “لعبة الكريات الزجاجية” ترك براهينه العملية على رأيه في نتاجه، منها: شطحات غولدموند الشعرية/ شخصية نرسيس المكتملة، على غرار شخصيات القصة القصيرة؛ الكاتبة والقاصة السورية لمى طاهر علي، لم تترك أدلة دامغة على شعريتها، في مجموعتها القصصية “على وشك” الصادرة عن دار “بحر” للطباعة والنشر في اللاذقية، وإن كانت لغتها تُخبر بذلك، لكنها بلا شك، إن قصدت فن الرواية، فإنها لن تكون صاحبة مرور عابر فيها، أقلّه في عالم الرواية المحلية، الذي صار من الواضح أنه يعاني خللاً على المستوى التقني عموماً، وفي تحديد “النوع” بشكل خاص، ما يكشف خللاً أكبر على مستوى الصياغة والتعبير، وهذا ما تضبطه كتابة القصة القصيرة، على مستوى الشكل والمضمون.

تقنياً وإبداعياً، فن القصة القصيرة هو فن “اللحظة المأزومة” وكلّ عناصر القصة يجب أن تكون وفية لهذا التوصيف، ولا بدّ أن تنسجم معه وفيما بينها لتحقيقه؛ الفكرة الجيدة دون شخصيات وحدث وناقل، هي فكرة ميتة قصصياً سلفاً، والشخصيات صاحبة الـ:(c.v)  الفخم، -على اعتبار أن فخامتها تنتقل بالضرورة لباقي المكونات، كما يعتقد البعض- هي شخصيات مشلولة بلا أحداث تخوض فيها، وهكذا؛ قصص “على وشك” هي من الأمثلة المهمة على مفهوم “اللحظة المأزومة” التي تعمل بقية مكونات القصة: “الشخصيات، الأحداث، البناء، الزمان، المكان، الفكرة” على تحقيقها، بانسجام عالٍ ومتناغم فيما بينها.

إلا أن براعة الكاتبة الأكثر قوة وحضوراً وفاعلية، تكمن في شخصياتها، فهي تعرف شخصياتها جيداً، تعرف دواخلها وأبعادها، هواجسها وطموحاتها، جموح هذه الشخصيات وانكسارها، تعرف مظهرها ومخبرها، وتعرف حتى ما يقبع في الأعماق السحيقة لتلك الشخصيات، وهذه القوة في القبض على تفاصيل الشخصية، وفي معرفة كلّ شيء عنها، -حتى وإن لم يذكر- تجعل من الشخصيات، مغناطيساً تنجذب إليه بقوة باقي المكونات، وتتفاعل معه، لتنتج اللحظة المأزومة، فكيف تعاملت الكاتبة مع شخصياتها؟.

شخصيات “على وشك” ليست مستوردة، ولا متخيّلة، بل هي من صميم المجتمع المحلي في اللاذقية، تظهر كأنها ثلاثية الأبعاد، حتى في جوانياتها التي تحضر أحياناً بكلمة أو لقطة، وبكثافة تعتمد البساطة في التعبير والعمق في الطرح، وهي بسيطة عموماً، لا قضايا كبرى تتنطح لها، ولا يعنيها أن يصدر عن فعلها مقولات كبرى، واقعية الوصف رمزية الدلالة، حياتها بسيطة، أحلامها بسيطة رغم كلّ التعقيد الذي يصنعها، لكنها ليست شخصيات مستكينة، بل تظهر بطولتها، حسب ظروفها ودوافعها وأهدافها، إنها لا تتعملق إزاء الخطوب، لكنها لا تنكمش أيضاً تحت سطوتها.

وعلى المستوى التقني، هي شخصيات مكتملة وليست مسطحة، ففن القصّ لا تناسبه الشخصية “النامية”، منضبطة حسب وظيفتها، فلا تطغى الشخصية الكاشفة على الرئيسية، كما أنها كشخصيات قصصية، تحقق شرط “قلة الكم ووحدة الانطباع”، فلا يتشتّت القارئ ولا يضيع الخط الناظم، تحت وطأة الوصف المتعدّد، الذي يعطي انطباعات متعددة.

في قصة “المانطو” تحلم البطلة الشابة بـ “مانطو” لونه بني، ترتديه مع شال أصفر، ويكون خاصاً بها، بعد أن تعبت روحها من ارتداء مانطو أمها أو خالتها أو جارتها، حتى أنها توافق على الزواج، تحت ضغط هذا الحلم البسيط، الذي يتهاوى لتعقيدات مختلفة المنشأ، منها ما هو ديني، وما هو اجتماعي، ومنها ما هو شخصي، متعلق بالضرورة بالجانبين السابقين، لكن الحلم يتحوّل إلى كابوس، والعالم الذي رضيت الفتاة به، ينهار بلحظة تأزم واحدة، فوالدة العريس لم توافق أن يكون لون المانطو بنياً، ولم توافق أن يكون على مقاس العروس تماماً، وذلك لكي تستطيع استخدامه مستقبلاً أيضاً، فثارت دواخلها رداً على تحطيم حلمها البسيط، أو خلاصها برمته من الجحيم، وأحرقت البيت والحيّ لتحرقه فقط.

تضع الكاتبة القارئ بظروف الشخصية، دون إسهاب، تمرّ عليها برشاقة، وتقدمها على دفعات، فتاة المانطو مثلاً، تركت المدرسة من الصف السابع، عندما بلغت، وطلب إليها والدها ألا تخرج بدون ارتداء “المانطو” لكنه غير متوفر بسبب الفقر، ولا يوجد سوى مانطو الأم، لتتناوب عليه مع أمها وأختيها، ما يعني عدم الخروج من البيت إلا للضرورة القصوى، وهكذا صار “المانطو” عدوها وحبل خلاصها المؤقت في مشوار، وعندما جاء عرض الزواج، فرحت لأنها سترتدي ما تحب “مانطو بني” وتخرج مشوارها، وانهار هذا كله في لحظة.

الشخصية والحدث، الحبكة والبناء، الشخصيات الأخرى، الفكرة، الزمان والمكان، كلها في مجموعة “على وشك” تحقق مفهوم “اللحظة المأزومة” التي هي الروح “البيور” لفن القصة القصيرة.

تبرع الكاتبة أيضاً في “التكثيف”، وربما يجب قول “فن التكثيف” فهو الخيار الأمثل للقاص عموماً في المعالجة الأدبية والفنية، فلا مجال للإطالة السردية في القصة القصيرة، أو إيجاد الحلول القائمة على الحبكات الجانبية، المنفصلة عن الحدث الرئيسي، ولا يمكن إضافة شخصيات، مهمتها الوحيدة فقط، شرح الظروف أو توضيحها، وهذه أكثر ثلاثة عيوب شائعة في القصة القصيرة المحلية، وأحد أسباب ضياع ملامحها وشتات مفهومها.

مما سبق ومن غيره مما لم يقال أيضاً هنا، يمكن وضع عدة نقاط تميّز عمل الكاتبة في “على وشك” منها: التركيز على الفكرة وعدم الانحراف عن البداية/ خلق شخصيات مؤثرة وفي زمن قياسي/ إيصال رسالة محدّدة، واضحة، ليست مجانية/ بلاغة لغوية توصل المعنى بأقل المفردات/ الحفاظ على الوحدات الثلاث، والابتعاد عن الازدواجية في الطرح.

تتكشف “على وشك” التي تتضمن 15 قصة قصيرة، والصادرة عام 2021، عن قاصة من طراز رفيع، تعرف جيداً الخوض في غمار هذا الفن الصعب، وتعرف كيف تحوّل صعوبته الإبداعية، إلى عامل تشويق فعّال، قابضة بخفة ولكن بإحكام على مفاتيحه.