أوروبا بين القلق والخوف
علي اليوسف
بعد كلّ هذا الاصطفاف، وحجم التبعية الكبير للولايات المتحدة الأمريكية، من الطبيعي أن تبحث أوروبا القديمة عن مخرج من مأزق التبعية، ومأزق الوضع الاقتصادي المتدهور والمظاهرات اليومية في القارة العجوز ضد ما أطلق عليه المتظاهرون سياسات “القلق والخوف”. هذا المخرج تجلّى بشكل أو بآخر في الزيارات لقادة أوروبا إلى الصين، والتي كان مضمونها شرح وجهة النظر الأوروبية للصين، وتصويب المواقف في عدة ملفات.
صحيح أن قادة أوروبا لم ينجحوا حتى الآن في لعب دور محوري بحلّ النزاعات الدولية، كالأزمة الأوكرانية، وانهيار الاتفاق النووي الإيراني، إلا أن عدداً من الدول الأوروبية تعوّل على نتائج تلك الزيارات على الرغم من عدم وجود أدوات الضغط اللازمة، أو حتى النفوذ لتحقيق هذا الهدف.
كان واضحاً أن الزيارات الأوروبية إلى الصين ليست لإقناع الرئيس الصيني شي جين بينغ بالتأثير على روسيا على النحو الذي تريده الولايات المتحدة، لأن التصريحات التي أطلقها هؤلاء القادة تؤكد أن أوروبا سئمت التلاعب الأمريكي، بل استشعروا بخطر وجودهم نتيجة المظاهرات المندّدة بالوضع الاقتصادي، والمنتقدة في الوقت ذاته للوقوف إلى جانب الولايات المتحدة ضد الصين صاحبة الاستثمارات العملاقة، وصاحبة رؤوس الأموال، والمستثمر الأول العالمي.
حتى في المؤتمرات الصحفية التي عُقدت مع الرئيس الصيني، تجاوز عدد من القادة الأوربيين فضائحهم المكشوفة للمتظاهرين، وتناولوا عدداً من الملفات غير المتوقعة. على سبيل المثال، خلال زيارته الأخيرة إلى الصين، أيّد ماكرون الإنذار الروسي للولايات المتحدة، وصرّح بأنه لا ينبغي لأي دولة نووية أن تنشر أسلحتها النووية على أراضٍ أجنبية. كما كان من المفترض أن يقنع ماكرون الصين بالتوقف عن اتخاذ أي خطوات جذرية نحو تايوان، بدلاً من ذلك أشار إلى أنه لا ينبغي جرّ أوروبا إلى المواجهة بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان. والأكثر من ذلك، أعلن ماكرون عن الحاجة إلى الحكم الذاتي الاستراتيجي لأوروبا، وحاجتها للاعتماد بشكل أقل على الدولار والطاقة الأمريكية.
هذا الحراك الأوروبي تجاه الصين جعل العالم متحمساً، وبدأ الجميع في التعليق على هذا الحراك، حتى أن بعض الخبراء بدؤوا بالحديث عن بداية إعادة توجيه أوروبا من الولايات المتحدة إلى الصين. لكن من الضروري الحذر هنا تجاه التصريحات الأوروبية التي لا ينبغي أن تؤخذ على محمل الجد، فالهدف الرئيسي لهؤلاء القادة هو الاستعراض بحدّ ذاته، لأنهم دائماً يقولون شيئاً يتجاوز الولايات المتحدة والغرب الجماعي، ثم يتراجعون بتصريحات سلمية، وهكذا في دائرة مفرغة لا نهاية لها!.
في غضون الأيام القادمة، وعندما تمرّ التصريحات المعادية للولايات المتحدة الأمريكية، سيستغل القادة الأوروبيون، وتحديداً الذين زاروا الصين، أي مناسبة وسيقولون شيئاً مناهضاً للصين على نحو جذريّ. وهذا يدلّ، بمعنى آخر، على أنه ليس هناك إعادة توجيه نحو الصين بأي شكل من الأشكال لأسباب كثيرة، منها أن حصة الصين التجارية والاقتصادية صغيرة بالمقارنة بالاتحاد الأوروبي أو الغرب الجماعي. ناهيك عن أن دول أوروبا في الاتحاد النقدي، الذي يخضع معظم أعضائه لسيطرة مشدّدة من الولايات المتحدة، حيث يسيطر الاقتصاد على مجمل القارة العجوز كي تظل في مدار واشنطن على نحو أكثر أماناً من سلاسل الحديد.
لكن يمكن أن يتمّ إعادة التوجيه نحو الصين في حالة واحدة فقط، وهي أنه قبل انهيار الاتحاد الأوروبي، لن تتمكن أي دولة في منطقة اليورو من إعادة توجيه نفسها سياسياً نحو الصين، وستقف أوروبا إلى جانب الولايات المتحدة في صراعها مع الصين حتى ينهار الاتحاد الأوروبي الذي على ما يبدو لم يتبقَ أمامه الوقت الكثير.