ما بعد “قمّة جدّة”
أحمد حسن
في العقد الأخير من القرن الماضي كان العمل العربي المشترك “فعّالاً” بصورة ما لأنه كان يستقرّ على “جسر” متين يستند إلى أعمدة ثلاثة (سورية –مصر – السعودية) يساهم التنسيق الدائم بينها في التقليل من مخاطر نظام الأحادية القطبية الذي كان سائداً حينها.
لكن تداعيات الأحداث الناجمة عن تغوّل مطامع ورهانات الأحادية الأمريكية وتوجّهاتها وحروبها التدميريّة على الدول والمجتمعات في مطلع القرن الحالي باعدت بين هذه “الأعمدة”، فاهتزّ النظام الرسمي العربي بأكمله، بدءاً من زلزال العراق وما تبعه من هزات ارتدادية في لبنان وغيره، وصولاً إلى ما سمّي “الربيع العربي” ليزداد التباعد بين هذه الأعمدة، ويزداد الوضع العربي انكشافاً وتردّياً، فعانت سورية وتألّمت القاهرة واشتعلت ليبيا ودخلت الرياض مجاهيلها اليمنيّة وتعمّقت أزمة فلسطين وتغوّل الأعداء وتظهّرت أطماعهم بالمنطقة وثرواتها إلى العلن.
بيد أن هذا “التباعد” لم يكن من الممكن له أن يستمرّ طويلاً لأنه يخالف طبائع الأشياء من جهة أولى، كما يتضارب، من جهة ثانية، مع حاجات العرب الرئيسية، الداهمة والمستقبلية، وحقيقة التحدّيات المشتركة فيما بينهم، لذلك ومع بدء بشائر نظام عالمي جديد بالظهور على أنقاض ذلك السابق/البائد، أعلنت “قمّة جدة”، مجريات ومخرجات، انطلاقة صفارة بدء عودة هذه “الأعمدة” العربية للتفاعل المنتج والواعي مع الوقائع السابقة والمستجدة بالتشارك الكامل والتساوي مع أعمدة عربية أخرى كالإمارات والجزائر.. وغيرها، وكنتاج مباشر لوعي عربي جامع بـ “ضرورة اتباع سياسات تكيُّف نشطة لمواجهة تحدّيات ومخاطر دخول النظام الدولي في مرحلة انتقالية معقدة”.
بهذا الإطار، تصبح السرعة، لا التسرّع، أمراً مهمّاً جداً في عملية ترسيخ إيجابيات القمّة وتحقيق أهدافها، وبالطبع فإن أول ما يترتب علينا في هذا المجال هو “أن نبحث عن العناوين الكبرى التي تهدّد مستقبلنا وتنتج أزماتنا كي لا نغرق ونُغرق الأجيال القادمة بمعالجة النتائج لا الأسباب”، كما قال الرئيس بشار الأسد في كلمته أمام القمة، وهنا “يأتي دور جامعة الدول العربية باعتبارها المنصّة الطبيعية لمناقشة القضايا المختلفة ومعالجتها”، لكن “شرط تطوير منظومة عملها عبر مراجعة الميثاق والنظام الداخلي وتطوير آلياتها كي تتماشى مع العصر..”.
وبالطبع فإن الأمر لا يتوقّف على إصلاح الجامعة، بل يقتضي من الجميع الإسراع، كما قال الرئيس الأسد، في معالجة الأمراض والتصدّعات في ظل حاجة الجميع أيضاً إلى استعادة الاستقرار والتعاون فيما بينهم للنجاح في مواجهة تحدّياتهم المشتركة سواء الداخلية منها أم الخارجية.
العالم يتغيّر، والمنطقة تتغيّر معه أيضاً، ويبدو، من واقع الحال ومخرجات “قمّة جدة”، أن تغيّراتها المقبلة لن تكون مفرحة بالطبع لـ “نادي القلوب المنكسرة” كما وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” قمّة مجموعة الدول السبع الأخيرة في هيروشيما. وهذه التغيّرات لا يمكن، كما اكتشف الجميع، أن تتم دون سورية، فمن “الصعب بل من المستحيل تدشين نظام آمن إقليمى عربي أو شرق أوسطي قوي في غياب سورية”، كما قال باحث مصري مؤخراً، وذلك أمر أصبح معروفاً للجميع.
إنها مرحلة التطلّع للأمام والعمل لأجله بكل السبل الممكنة لأن القوى المعتدية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يحدث، وهذا ما تؤكده التحرّكات الأمريكية الجديدة ضد الخيارات العربية التي ثبّتتها “قمّة جدة” بشأن سورية، لكن الرهان الحقيقي كان وما زال دائماً على رسوخ إرادة الحياة لدى أبناء المنطقة واتساع رقعة وعيهم بضرورة حماية روحية “القمّة” الجامعة بل دعمها لتشمل الجميع في الإقليم، والعالم الحرّ الحقيقي لا المزوّر، لمواجهة تحدّيات مرحلة صعبة وخطرة.