ناس ومطارح.. حانة “أبو جورج”: دمعة على خد المدينة القديمة، والزمان
تمّام بركات
أين يمكنك أن تقرأ في مكان واحد، وعلى مسافة فاصلة أو نقطة، للكثير من الشعراء والفلاسفة والمجانين معاً؟ هذا مع ميزة ألا تبارح المكان، في حال استطعت ذلك، بعد ثالث جولة من جولات نبيذ “معلولا” المعتق في أقبية الكنائس والأديرة.
لا أن تقرأ فقط، بل أن تمضي بجولة مكوكية، على بساط سحري، محاك من ورق دوالي غوطة دمشق، بين عوالم صارت من الماضي البعيد والبعيد جداً، والقصي أيضاً؛ يمكنك أن تلتقي بحبيب غاب، بصديق مات، بنفسك أنت قبل 20 عاماً مثلاً، ويمكنك ولو لساعات تقضيها فيه، أن تعود إلى الماضي، وتصلح ما أردت فيه، وتشرب نخب تصالحك معه.
قطعاً لا يوجد الكثير من الأمكنة التي تحقق هذا، فهذه “خلطة” سحرية وسرية لمكان، وكأنه خارج الزمان، يهيم في مدارات وعوالم “ألف ليلة وليلة” التي ينتمي إليها وإلى عصرها بقوة، إلى مدنها وناسها، إلى الحياة التي سرت في شوارعها، والأعمار التي كرجت بها السنين بين بيوتها ومطارحها، لكن دمشق -طبعاً- تخبئ أحد هذه الأمكنة في قلبها، ولا تزال تحتفظ له بملامحه في ذاكرتها.
مكان، الجميع يدلك عليه في حال أخذتك “حواري” الشام من نفسك، وتهت في تلك الأزقة التي تتشابه تقاسيمها، بل وتتداخل فيما بينها أيضاً، وهذا أحد أسرار جمالها، وفي أي وقت، حتى أن الداخل من “باب شرقي” إلى قلب المدينة القديمة، الداخل إليها أيضاً من “باب توما” من اتخذ من باب “الجابية” مدخلاً له إليها، ومن قصدها من جهة السوق الطويل، هؤلاء إن أرادوا أن يجتمعوا عند نقطة علام في المكان، فستكون “حانة أبو جورج”، المكان الأكثر شهرة في “باب شرقي” وصاحبها “أبو جورج” الساقي والنديم الشهم، ابن البلد، الذي أحاطها بالألفة والسمعة الطيبة عند القريب والغريب، وبقي محافظاً عليها وعلى طابعها الشعبي القديم، مع لمسات حداثوية بسيطة، لا تفسد للود قضية، والغريب، الغريب فعلاً، أن رواد حانة “أبو جورج” لا يزالون يجدون لليوم، فوق جدرانها متسع لكتابة أرواحهم المذابة، على شكل قصائد شعرية! فتلك الجدران لا يزال هذا حالها منذ أكثر من 15 سنة، كل رواد الحانة، تركوا ويتركون، فوق تلك الجدران، ما يعتقدون أنه سيعيدهم إلى هذا المكان، مهما ابتعدوا، ولو تحت التراب؛ إحداهن لا تحب الشعر، فقامت بترك قبلة على الجدار، ولا تزال قصيدتها الفريدة، تضيء في جدار حانة أبو جورج. غمز لي أحد الأصدقاء، بأن أبو جورج، يقوم بين الحين والأخر، بمسح الذكريات التي سقطت بالتقادم عن جدران حانته، وهذا يسمح للشباب، بكتابة أوهام جديدة، أوهام لذيذة ربما، بنكهة اليانسون والعنب.
ثمة أصوات أيضاً من ذلك الزمان، ستصل للجالس في حانة “أبو جورج” التي تبث هذه الأجواء السحرية، في المدينة القديمة، وبينما أبو النواس يهم بالخروج من أحد جدران المكان، لملاقاة نزار قباني الخارج تواً من الجدار المقابل، ينضم إليهما على الطريق الفاصل بين طاولتين وبار صغير، يقف أبو جورج خلفه، كل من غادة السمان، كولييت خوري، أدونيس، منذر مصري، محمود درويش، محمد الماغوط، إيف بونفوا، سان جون بيرس، ألبير كامو، ماركيز، ممدوح عدوان، نجيب محفوظ، السياب، والكثير غيرهم، حيث يقوم رواد الحانة الشباب، بدعوتهم إلى كأس، يبللون فيه غيابهم.
ومن بين الصور السحرية، الغائمة التي تراود الجالس عن خياله، في الحانة، يتسرب صوت أم كلثوم تغني: “دى ليلة حب حلوه بالف ليلة وليلة، بكل العمر هو العمر ايه غير ليلة زى الليلة” وها هو وجه أبو جورج المبتسم أبداً، يفض التباس الواقع بالخيال، وهو يصب “عرق” السويداء الشهير، مثنيا باستعراض صادق، بأن: “لا خمر في العالم أطيب من خمر سورية” ذاكراً من باب الود بالود، كيف حول “ابن مريم” ماء “قانا” إلى نبيذ، قبل أن برفع نخباً في صحة الجميع.
حانة أبو جورج، والطريقة التي فكر الرجل فيها لجعلها مكاناً لتجربة زمنية لا تنسى، عندما استلم عن والده، عن جده، عن والد جده، إدارتها، تدل على تفكير اقتصادي منسجم مع المكان والزمان والظروف، ومنسجم مع طبيعة الاقتصاد العائلي الشعبي، ثلاث طاولات صغيرة، بضعة كراس صغيرة حولها، أغنية لطيفة تدور في فضاء المكان، وهذا ما يجعله مكاناً مناسباً، للقاء سريع لا مكان فيه للنميمة، لعبة المقهى المفضلة، مكان مغر لصورة تذكارية تبقى الحياة في عالمها “الكلوروفورمي” نابضة بالحياة أبداً، وهذه الأمكنة، بدأت تنقرض من المدينة، بعد أن كانت جزء فريداً من مزاجها الشعبي والثقافي أيضاً، وانقراضها يعني تغييراً حاداً في هذا المزاج، والمدن العريقة في التاريخ، لا تغير مزاجها، فكيف أعرقها تفعل يا أيها الساقي؟!