بعيداً عن المواجهة.. الصين تكسر “قانون التاريخ”
عناية ناصر
صنّفت الولايات المتحدة الصين على أنها أكبر منافس استراتيجي لها، وتحركت لاحتوائها، الأمر الذي جعل الصينيين يشدّدون على أن جميع البلدان التي استهدفتها الولايات المتحدة، وحاصرتها، على مدى نصف القرن الماضي، أو نحو ذلك، قد لاقت هلاكها.
تجدرُ الإشارة في البداية إلى أن وجود علاقات جيدة مع الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن بالضرورة يعني الازدهار، لكن أولئك الذين واجهوا الولايات المتحدة مروا بأوقات عصيبة. وبناءً على ذلك يجب على الصين أن تكسر ما يُسمّى بـ”قانون التاريخ” وأن تصبح الفائز النهائي في هذه اللعبة الاستراتيجية التي فرضتها الولايات المتحدة على الصين.
بعد الحرب العالمية الثانية، لم يكن لدى جميع الدول التي قمعتها الولايات المتحدة القدرة على تجاوزها من حيث الحجم الاقتصادي، أما الصين فقصة مختلفة تماماً، فمن خلال نظام سياسي قوي وتصميم وطني، تمكنت من أن تظل هادئة كلما ساءت الأمور، حيث كانت الحرب التجارية التي شنّها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب مع الصين بمثابة معركة كان من الممكن أن تخاف منها الدول الأخرى بشكل كبير أو أن تغضب منها تماماً، إلا أن الصين كانت هادئة لدرجة كبيرة، وأدى ذلك إلى نمو تجارتها الخارجية الإجمالية لتصل إلى أحجام أعلى، ولم تتحقق رغبة ترامب المتمثلة في تضييق العجز الأمريكي مع الصين، حيث سجل العجز الأمريكي مع الصين عجزاً قياسياً آخر في عام 2022، وهو العجز الثاني بعد العجز الأول عام 2018.
من المتوقع أن يتجاوز حجم الاقتصاد الصيني الاقتصاد الأمريكي، كما هو متوقع على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن الحصار التكنولوجي الذي تفرضه الولايات المتحدة على الصين قد يتسبّب في بعض الاضطراب، لكنه سيحفز الصين أيضاً على تسريع ابتكاراتها، ومن الصعب تحديد ما إذا كان تأثيره التاريخي النهائي سيكون أكثر ملاءمة للولايات المتحدة أم للصين؟.
الأهم من ذلك، بسبب الاستقرار السياسي والهدوء العملياتي في الصين، لم تجبر الصين على اتخاذ طريق المواجهة الإستراتيجية التي يحركها الغضب والعزلة الذاتية، حيث تواصل الصين الحفاظ على جميع العلاقات الاقتصادية، والتبادلات الشعبية الممكنة بين الصين والولايات المتحدة. إلى جانب ذلك، لم تصبّ الصين غضبها على الدول الغربية الأخرى، وبدلاً من ذلك، بذلت الصين قصارى جهدها لضمان انفتاح البلاد أكثر على العالم الخارجي. لقد تعاملت في ظل قيادة الحزب الشيوعي، بالإضافة إلى الخبرة التاريخية العميقة والموارد الغنية في الأفكار، مع استراتيجية الاحتواء الأمريكية بطريقة غير مسبوقة وفريدة من نوعها في تاريخ البشرية.
يحتاج الصينيون إلى أن يكونوا واضحين في أن الولايات المتحدة قد احتوت دولاً أخرى في الماضي لأسباب عديدة، وإلى حدّ كبير سياسية وعسكرية، فاحتمالية ازدهار الاقتصاد الصيني، وقدرته على تجاوز الولايات المتحدة من حيث الحجم الإجمالي هي أكبر سبب لعداء واشنطن تجاه الصين، وإن أكثر ما يقلق واشنطن ويخيفها هو إمكانية تحولها إلى مرتبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
ومع ذلك، فإن التنمية الاقتصادية في الصين هي عملية طبيعية لسعي الشعب الدؤوب من أجل حياة أفضل، فكيف يمكن إيقافها عندما يسعى كلّ الناس إلى الأمام معاً مثل الجداول الصغيرة التي تشكل النهر العظيم؟. يمكن للولايات المتحدة أن تحاول احتواء بعض المناطق، ولكن كيف يمكنها احتواء الصين في بناء الطرق والكهرباء في جميع المناطق الريفية، ومنح الناس منازل أفضل، وطعاماً أفضل، والمزيد من الرفاهية؟.
يعدّ التحسن المستمر في حياة 1.4 مليار شخص هو المحرك الأساسي لنمو الناتج المحلي الإجمالي للصين عاماً بعد عام، والذي قد يتجاوز في النهاية مثيله في الولايات المتحدة. وطالما أن الصين لا تتدخل بأحد، وتمضي قدماً خطوة بخطوة، وتكوّن صداقات في جميع أنحاء العالم، وتحاول حلّ سوء التفاهم والعداء قدر الإمكان، فلا توجد طريقة للولايات المتحدة لتضمين الصين في صفوف الدول الفاشلة التي تخضع لاحتوائها.
يمكن القول إن تناقضات الولايات المتحدة الداخلية أعمق من أن يتمّ حلها، وهي منشغلة بالمواجهة الخارجية لمحاربة خصومها بدلاً من تعزيز قدرتها التنافسية، لقد كانت ذات يوم مركز الثروة والإنتاج في العالم، وأصبحت الآن مركزاً للنزاع والمواجهة. وعلى الرغم من أنها تبدو مبتهجة للغاية، لكنها في الواقع متورطة في الامتداد المفرط نفسه الذي أدى إلى مآسي تاريخية مختلفة للأمم العظيمة والقوية.
إن نضال الصين ضد الولايات المتحدة يتكامل إلى حدّ كبير مع تصميمها على تطوير نفسها بشكل جيد، وفي هذا السياق يمكن للصين أن تتعلم من تجربة الاتحاد السوفييتي السابق. كما أنها تعمل على تحقيق المؤشرات الصارمة للأمن القومي بحزم، ولن تعيقها أبداً استراتيجية الاحتواء الأمريكية. وفي هذا الخصوص يجب أن تحافظ الصين على منطقها وإيقاعها للحكم الداخلي، وأن تستمر في تحفيز الحيوية المتأصلة في اقتصاد السوق الاشتراكي، وكذلك حيوية المجتمع وإبداعه، ودعم النضال ضد الولايات المتحدة بكل ما هو حيوي، وبهذه الطريقة، ستنتصر الصين بالتأكيد في نهاية المطاف.