ثقافةصحيفة البعث

حسين نازك… ملك الأغنية الملتزمة

أمينة عباس

رحل مؤخراً الفنان حسين نازك شيخ الموسيقا الفلسطينية والعربية وملك الأغنية الملتزمة الذي كتب التاريخ الوطني الفلسطيني بطريقة مغايرة لما كتبه ودوّنه الآخرون بعيداً عن الكتابة الكلاسيكية من خلال الأغنية، فكان الصوت المدوي للكلمة والغناء والموسيقا للحفاظ على هوية الشعب الفلسطيني في كل أرجاء العالم، وقد اختير قبل رحيله في فلسطين ليكون شخصية العام الثقافية للعام 2023 لأنه ولأكثر من ستين عاماً من الفعلِ الإبداعيِّ في مجالِ الموسيقا كرَّسَها من أجلِ خدمةِ قضايا شعبِه وأمَّتِه ووطنِه، وكانت كلّها محملةً بالحنينِ والشوقِ للوطنِ المحتل من خلالِ تأسيسِه وإدارتِه لفرقةِ العاشقين التي كان لها دور في تكريسِ الأغنيةِ الثوريةِ الوطنيةِ الفلسطينيةِ على مدارِ عقود، وقد احتفت أوركسترا الموسيقا الشرقية بقيادة المايسترو نزيه أسعد بأعماله كملحن عام 2021 من خلال حفل أقامته في دار الأسد للثقافة والفنون، وتزامناً مع هذا الاحتفاء كانت البعث قد أجرت معه حواراً بيَّن فيه أنه في القدس التي ولد فيها وفي مرحلة مبكرة بدأ بتلقي العلوم الموسيقية في معاهدها بتشجيع من والده، فدرس علوم الموسيقى الغربية والتوزيع الموسيقي وأصول التأليف والتلحين وقيادة الأوركسترا على يد أستاذه الأول الموسيقار يوسف خاشو صاحب سيمفونية “القدس” إلى أن قرّر أهله عام 1967 النزوح إلى عمّان التي تابع فيها تعليمه الموسيقي في علوم الموسيقا الشرقية بمساندة الراحل يحيى السعودي الذي كان في إذاعة عمان، ليبدأ بعد ذلك مسيرة طويلة في التأليف والتلحين والتوزيع.

من عمان إلى دمشق

في عمر 27 وكان ذلك في العام 1969 توجّه حسين نازك إلى دمشق التي شهدت انطلاقته من خلال عمله عازفاً على مختلف الآلات في الفرق الموسيقية الغربية والشرقية وفي الإذاعة والتلفزيون وبرامجهما المنوعة، ومن خلال عمله مع فرقة المطربة ميادة التي لحّن لها بعض أغنيات الجاز التي حقّقت شعبية كبيرة في بداية السبعينيات، إلى جانب مشاركته كعازف على آلة الساكسفون وغيرها من الآلات مع فرقة التايغرز لموسيقى الجاز. وعلى الرغم من كل النجاح الذي حققه حينها إلا أن ذلك لم يرضِه، ولأنه كان يملك ذاكرة موسيقية غنيّة بدأ يفكر بنشر التراث الفلسطيني، مستعيناً بالفلسطينيين المعمّرين في دمشق، وكانت الخطوة العملية تأسيس فرقة أغاني العاشقين، عام 1976، التي كانت كل أغانيها عن فلسطين والقضية الفلسطينية والتي قدّمت أولى حفلاتها عام 1977 بالاستعانة بأشعار محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد وراشد حسين وأحمد دحبور وأبو الصادق. وفي العام 1978 قدّمت الفرقة أربعاً وعشرين أغنية سُجلت على أقراص C.D وثق بها ما يحدث في المنطقة، وقد شاركت هذه الفرقة في العديد من المهرجانات العربية والدولية، وساهمت بانتشار الأغاني الشعبية والوطنية الفلسطينية في الوطن العربي وبعض الدول الأوربية، وساعد توزيع أقراص الـ C.D في انتشارها على نطاق واسع، إلى أن انفرط عقدها عام 1985 مع الإشارة إلى أن أول ألبوم للفرقة صدر عام 1978 تحت عنوان “بأم عيني” لتتتالى بعد ذلك ألبومات “ما بعد”، “المدن الفلسطينية”، “الكلام المباح”، “ربيع العاشقين”، “أغاني الديرة”، والعديد من الأغاني المتفرقة المنفردة.

كان نازك يفسر نجاح الفرقة كونها ابتعدت عن أن تتغنّى بالأشخاص أو القيادات، وكان عملها ثقافياً فنياً يتحدث عن أحداث ووقائع وبطولات الشعب والشهداء، إضافة إلى ابتعادها عن الشكل التقليدي للفرق الأخرى، حيث كانت تؤدي أغانيها عن ظهر قلب وبتلقائية وبلا حواجز مع المتلقين، فيشاركها الجميع الأداء مما يضفي على حضورها الحميمية والمصداقية، وقد تابع نازك بعد توقف هذه الفرقة عمله فسجل لمجموعة فنانين في لندن تُسمّى “العاشقين أوروبا” ألبوماً كاملاً باسم “ربيع العاشقين” كما سجل لفرقة من جنين ألبوماً آخر تمّ تنفيذه بين دمشق وعمّان باسم “أغاني الديرة” وكان يرى أن كلّ ذلك كان استمراراً لمسيرة أغاني “العاشقين” إضافة إلى ما أنجزه في البرنامج الغنائي المصور “شموع ليلة مقدسية” والمسرحية الغنائية “واسطة العقد” التي كانت تضم 33 لحناً غنائياً.

زنوبيا

تولى الراحل منذ العام 2015 مهمة إحياء وجمع وإعادة تأهيل التراث الفلسطيني كمدير تنفيذي للمشروع من قبل المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وكان مشروع إحياء التراث الفلسطيني الفلكلوري بمبادرة منه مع اللجنة الوطنية الفلسطينية للثقافة والتراث، ليحظى لاحقاً برعاية المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، وقد قطع المشروع شوطاً بعيداً في الإنجاز والبرمجة والمنهجية، وفي العام 1985 أسس نازك فرقة زنوبيا القومية الحديثة بتكليف من د.نجاح العطار حين طُلب منه تشكيل فرقة فنون رديفة لفرقة أمية العريقة في وزارة الثقافة، ووضع حينها خطة عمل منهجية وبرامجية وتنفيذية للعمل بحيث تكون مختلفة شكلاً ومضموناً عن فرقة أمية، وهذا ما تمّ فعلاً، ففيما كانت أمية هي الوثيقة الحيّة للتراث الشعبي أصبحت مهمة الفرقة الحديثة الاستفادة من مفردات التراث في اللحن والكلمة واللباس والحركة كحالة إبداعية متجددة تتناول الأصالة وتتصل بالمعاصرة وتجدّد الإبداع الفلكلوري بلغة عصرية، وهذا ما كان، فحققت زنوبيا نجاحاً كاسحاً محلياً وعربياً وعالمياً.

سورية الهوى والعشق

كان حسين نازك يؤمن أن الأغاني الوطنية هي نتاج لدفق عاطفي وأخلاقي وإحساس بالمسؤولية من المبدعين، واذا كان هذا هو الدافع للعمل وإنتاج أغنية أو نشيد فمن المؤكد أن ذلك سيكون ناجحاً ومقبولاً من المتلقي، إما إن كان الدافع عملية ارتزاق فسيتبخر من ذاكرة حتى من كتبه ولحّنه، وكان دوماً يردد “القدس موطني ومسقط رأسي، والأردن مرتع الصبا والشباب والهوية، أما سورية فهي الهوى والعشق” فهي التي صنعت تألقه الموسيقي، فمنها انطلقت أعماله إلى بيروت وبغداد والكويت والقاهرة وتونس والجزائر والرباط ودبي عربياً، وأثينا ولندن وبون وبرلين عالمياً بأعمال كبيرة ومميزة مع فرق وعازفين وكورال واستوديوهات مميزة وكبيرة.

أعمال وجوائز

يُذكر أن الملحن الراحل حسين نازك ألَّف ووزع موسيقى نحو 32 مسلسلاً سورياً ولبنانياً وأردنياً، مثل “انتقام الزباء”، “طبول الحرية”، “حرب السنوات الأربع”، إضافة إلى تأليف وتلحين أغاني الكثير من المسلسلات والبرامج الخاصة بالأطفال: “افتح ياسمسم” و”المناهل” وفيلم “عروس البحيرة”، كما اهتمّ بالأناشيد القومية التي شاعت وانتشرت في بلاد الشام في الفترة بين 1932-1947، حيث قام بإعادة توزيع أناشيد “بلاد العرب أوطاني”، “في سبيل المجد”، “نحن الشباب”، “حماة الديار”، وهو عضو في المكتب التنفيذي للمجمع العربي للموسيقى ومجلس الموسيقى الدولية والجمعية الأمريكية للملحنين والناشرين، وكرّمتْه وزارة الثقافة عدة مرات، وحاصل على عددٍ من الجوائز: الجائزة الأولى لأفضل توزيع أوركسترالي لنشيد “بلاد العرب أوطاني”، وجائزة أفضل استخدام موسيقي للتراث العربي من مهرجان قرطاج 1980، وجائزتان ذهبيتان من اليابان لأفضل عرض موسيقي ياباني من موسيقى غير يابانية.