قتيبة الشهابي.. عاشق دمشق ومؤرخها
أمينة عباس
تكريماً للمؤرّخ الراحل قتيبة الشهابي، عاشق دمشق ومؤرخها، عقد مركز ثقافي العدوي مؤخراً ندوة بإدارة الإعلامي عمر جمعة ومشاركة د. علي القيم ود. نزار بني المرجة، تناولت مسيرة الشهابي كأحد أهم الكتّاب الذين كتبوا عن دمشق في القرن العشرين وأحد أهم مؤرخيها، وبيَّن جمعة في تصريحه لـ”البعث” أن دمشق هي صديقة الشهابي الأثيرة التي أعطت حياتَه طعماً مختلفاً، وقد تماهى معها شاعراً وباحثاً ورساماً ومصوراً مغرماً بتصويرها إلى حدّ الشغف، وكان مَديناً لها بكلّ أيام الفرح والسعادة التي عاشها، وقد لخَّص قبل رحيله مسيرة حياته مع دمشق فقال: “أنا لا أخشى الموت بل أقهره بالعطاء والإبداع، وكل إنجاز جديد يعطيني يوماً جديداً آخر.. لقد مشيتُ في طريق اخترتُه بكل رضاي، وكانت شجرتي خصبة وأعتز بثمارها”.
العدسة قلمه.. والفيلم أوراقه
وأشار د. علي القيم إلى أن قتيبة الشهابي وضع مخططات ميدانية تفصيلية لأسواق دمشق ومواقعها ومشيّداتها التاريخية والأثرية من خلال تصويره لها، وذكر تسميات الأسواق الشائعة على ألسنة الناس إلى جانب التسميات الرسمية، مبيناً أنه استطاع ضمن إمكانياته وهواياته أن يوثق الغالبية العظمى من هذه الأسواق المعروفة والتي جاء ذكرها من قبل المؤرّخين القدامى، مسخّراً كفنان تشكيلي أيضاً كل طاقاته الفردية، تدفعه رغبةٌ مجنونة لإبداع لوحة جميلة فيها كل القيم التشكيلية وعناصر التشويق والإثارة، بالتجريد تارة والتكعيب تارة أخرى، موضحاً أنه عاش مع المصادر والمراجع والأبحاث، فبحث ونقّب وصوّر، وكانت الصورة عنده هي المقولة والتاريخ، وكانت العدسة قلمه، والفيلم أوراقه، مشيراً إلى أن قتيبة الشهابي أفنى حياته في توثيق تراث دمشق، فأنجز عدداً كبيراً من الكتب، أهمها “دمشق تاريخ وصور” و”معجم دمشق التاريخي” وغيرهما على الرغم من أنه كان طبيب أسنان.
التاريخ بالصور
وتوقف د. نزار بني المرجة عند محطات كثيرة من سيرة قتيبة الشهابي الحياتية والبحثية، خاصةً وأن الشهابي كان أستاذه في كلية طب الأسنان ونادي فن التصوير، مبيناً أن الشهابي ولِد عام 1934 لأب يحمل الجنسيتين السورية واللبنانية وكان من المناضلين البارزين ضد الاحتلال الفرنسي في غوطة دمشق، مشيراً إلى أن الشهابي تلقى تعليمَه الابتدائي في مدرسة دوحة الأدب وكانت مديرتها المناضلة عادلة بيهم الجزائري، وفي المرحلة الإعدادية بدأت ميول المطالعة والكتابة وتذوّق الفنون لديه، وقد فاز بجائزة لكتابة القصة القصيرة في مسابقة أعلنت عنها مجلة “عصا الجنة” لصاحبها نشأت التغلبي، وفي مطلع شبابه وبعد مجزرة البرلمان نتيجة العدوان الفرنسي على مبنى البرلمان عام 1945 ذهب مع نجل الرئيس شكري القوتلي إلى المبنى وشاهد آثار الجريمة المروعة وتمنى يومها كما قال: “لو كانت معي آلة تصوير”، ليصوّر ويوثق آثار ذلك العدوان الآثم، وحين حصل على الشهادة الثانوية انتسب إلى كلية طب الأسنان، فكان طالباً متفوقاً فيها وتمّ إيفاده إلى بريطانيا لمتابعة دراساته العليا، وأصدر في الفترة ما بين 1963 و1994 أربعة كتب تُدرّس في منهاج كلية طب الأسنان، كما أنجز معجمين بالعربية والإنكليزية يضمّان آلاف المصطلحات العلمية. وأكد بني المرجة أن الشهابي تمتّع بخبرة توثيقية نادرة في حقل الآثار والمعالم التاريخية، وتمكَّن من الاستفادة من تخصّصه في التصوير الضوئي العلمي المجهري في توظيف التقنيات العلمية في مجال خدمة أبحاثه الآثارية، فأصدر العديد من الكتب التوثيقية بالكلمة والصورة لآثار وتاريخ دمشق وسورية بشكل فني لافت وغير مألوف في كتب التاريخ يندر أن نجدها عند باحث آخر، موضحاً أن الشهابي نذر حياته للقيام بمهمة التوثيق الفني لكلّ ما يتعلق بتاريخ دمشق، فأنجز عشرات الكتب والأبحاث وآلاف الصور التوثيقية التي رصدت كل زاوية وأثر في دمشق والتي شكلت منجزاً ومكتبة كاملة قدّمها لنا ولدمشق وللتاريخ، ولعل خصوصية مُنجز الشهابي برأيه تكمن في تقديمه توثيقاً مصوراً لم يسبقه إليه أحد، إضافةً للتوثيق المكتوب الذي يقدّمه لنا المؤرخون في المصادر والمراجع التاريخية والتي لم يألُ الشهابي جهداً في الرجوع إليها وهو الذي كان يقول: “الكاميرا لا تخطئ، والكتاب ليس محايداً.. المؤرخ قد يخطئ أو يسهو، أما الصورة فلها خصوصيتها، إذ تجعل التوثيق أكثر مصداقية، فهي تعبّر وتتكلم وتلعب دوراً كبيراً في بيان الحقيقة”، لذلك كثيراً ما كان يقول الشهابي كما بيّن بني المرجة أنه يحترم الصورة أكثر من أي كتاب، وهذا هو سر اعتماده على الكاميرا في معظم مؤلفاته ومُنجزه التوثيقي، وأنه كثيراً ما كان يعبّر عن أسفه لأن الرحّالة والمؤرّخين العرب لم يكونوا منصفين في وصفهم لدمشق في الوقت الذي كان فيه المؤرّخون والمستشرقون الغربيّون أكثر دقةً وإنصافاً في توثيق معالمها التاريخية، من هنا كانت كل المعارض التي شارك فيها الشهابي كفنان تشكيلي عن دمشق القديمة. وأشار بني المرجة إلى كتاب الشهابي التوثيقي المصور “دمشق تاريخ وصور” والذي صدر في عدة طبعات ولاقى اهتماماً لافتاً غير مسبوق من قبل الباحثين والمهتمين والعاشقين لدمشق لما تضمّنه من فنية عالية وجهد توثيقي غير مسبوق، حيث اشتمل على أكثر من خمسمئة صورة ومخطط عمراني وخارطة لأوابد دمشق ومعالمها القديمة والحديثة وشخصيات سورية وأجنبية ذات علاقة، إضافة إلى رصده للحياة اليومية والاجتماعية لأقدم عاصمة مأهولة في التأريخ، منوهاً بأن الشهابي أهدى دمشق والمكتبة العربية -فضلاً عن كتبه العلمية الطبية التدريسية التي كانت مقررة في منهاج كلية طب الأسنان- سبعة وعشرين كتاباً توثيقياً موسوعياً مصوراً، وهذا ما دفع مركز الأبحاث العربية والدولية وفي طليعتها مكتبة الكونغرس الأميركية إلى اقتناء معظم مؤلفاته وكتبه وهو القائل: “لقد كُتب التاريخ بالكلمات وسأكتبه أنا بالصور”.
يُذكَر أن الندوة اختتمت باقتراح الحضور توجيه كتاب موقع من قبلهم إلى محافظة دمشق لإطلاق اسم قتيبة الشهابي على أحد شوارع دمشق.