السودان ضحية ما يسمّى “ديمقراطية” أمريكا
سمر سامي السمارة
كشفت الأحداث التي وقعت في السودان مؤخراً، وأدّت إلى صراع دموي بين جنرالين متنافسين، هشاشة سياسة التوجّه نحو “هيمنة ديمقراطية” الولايات المتحدة، حيث تعكس سياسة الولايات المتحدة في ظل كلّ من الإدارات الجمهورية والديمقراطية الآن عجز واشنطن عن تقديم الدعم والمساعدة لما تدّعيه “التحول الديمقراطي” بشكل كامل في ذلك البلد الأفريقي.
على الرغم من تعهدات بايدن منذ اليوم الأول له في منصبه، بالسعي لتعزيز “الديمقراطية” وجعل حقوق الإنسان من أولويات أجندة واشنطن، وهو الأمر الذي كان يؤكد عليه مع أعضاء آخرين في إدارته بشكل ديماغوجي يومياً، لم تبذل الولايات المتحدة إلا القليل لدفع الديمقراطية في السودان. ومع ذلك، فإن ردّ فعل واشنطن على محاولات تأجيج الصراع يظهر محدودية النفوذ الأمريكي في السودان الذي يتضاءل باستمرار، فلم تعد الولايات المتحدة هي الفاعل الدولي المركزي كما كانت عندما أشعلت الحرب الأهلية المستمرة منذ عقود بين شمال السودان وجنوبه، ودعمت استفتاء استقلال جنوب السودان الذي فُرض على الجنوب وتمّ الاعتراف به على الفور، الأمر الذي يُظهر النفاق والغوغائية الرخيصة لـ”ديمقراطية الولايات المتحدة”، فعندما كان ملائماً لها، اعترفت واشنطن على الفور بنتائج الاستفتاء على الرغم من حقيقة أن شمال السودان وجنوبه كانا دولة واحدة، ويعيشان وفقاً لهذا المبدأ لأكثر من مائة عام.
مع اشتداد القتال بين المعسكرين، تناست إدارة بايدن على الفور مبادئ “الديمقراطية” المزعومة وبدأت في إعطاء الأولوية لهدفين رئيسيين، كان أولهما ضمان سلامة المواطنين الأمريكيين في السودان، ثم إجلاؤهم لمنع تكرار الإخفاقات الأمريكية السابقة في مناطق الصراع، والتي كان من الممكن أن تقوّض احتمالات فوز بايدن بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني 2024، وثانيهما التقليل من أهمية مشاركة المنافسين الدوليين للولايات المتحدة الذين يسعون، بطبيعة الحال، إلى تشكيل مستقبل السودان السياسي بطريقة تعزّز مصالحهم الخاصة.
ومع تراجع النفوذ الأمريكي في السودان، اقتصرت الخيارات المتاحة لإدارة بايدن مع تزايد الأعمال العدائية، وتلاشي احتمالات الهيمنة في ذلك البلد على خيارين، وهما دعوة حلفاء واشنطن الإقليميين والسياسيين للتدخل والضغط على البرهان وحميدتي للعودة إلى طاولة المفاوضات، ووقف القتال والاتفاق على صيغة لإعادة الاستقرار والأمن والحفاظ عليهما، حيث تدرك الولايات المتحدة أن حالة الاستقرار والأمن في السودان تؤثر على مناطق أخرى مثل القرن الأفريقي، وهي منطقة ذات أولوية لنفوذ واشنطن في قارة أصبحت ساحة للتنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة وخصومها العالميين.
والخيار الثاني هو تلبية مطالب نواب الكونغرس من كلا الحزبين، ممن ساعدت مشاركتهم في القضية السودانية في سدّ الفجوة الدبلوماسية لإدارتهم، وفرض عقوبات على القادة العسكريين السودانيين وأنصارهم، وبالتالي حرمانهم من الإيرادات التي تدعم قواتهم وسلطتهم وتوجد فرصاً لتنمية نفوذهم في السودان.
بعد ثلاثة أسابيع من اندلاع الأعمال العدائية، أمر بايدن بفرض عقوبات على أفراد القوات المسلحة في السودان لاستخدامهم المزعوم للعنف ضد المدنيين، وتعريض استقرار البلاد للخطر، وارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. لكن الحقيقة هي، وفق ما ذكرت وسائل الإعلام الأمريكية نفسها مراراً وتكراراً، أن الهدف من العقوبات هو الحفاظ على نفوذ واشنطن على القيادة العسكرية للبلاد.
في الواقع، كانت العقوبات قد سبقت التصعيد الأخير، لكن واشنطن كانت متردّدة في فرضها في عامي 2019 و2021 خوفاً من فقدان نفوذها على الجيش، وبالتالي تقويض هيبتها في هذا البلد، فضلاً عن أنها تخشى أن يؤدي الضغط الكبير على البرهان وحميدتي بهذه الطريقة إلى دفعهما في الوقت نفسه إلى أحضان القوى المتنافسة مع الولايات المتحدة على النفوذ في السودان.
بشكل عام، تعكس السياسة الأمريكية في ظل كلّ من الإدارات الجمهورية والديمقراطية منذ الإطاحة بنظام البشير في عام 2019، فشل واشنطن في إنهاء الصراع القائم في البلاد، حيث كانت النتيجة تراجع نفوذ الولايات المتحدة لمصلحة القوى الإقليمية والدولية التي تتعارض مصالحها مع مصالح الولايات المتحدة، هذا إلى جانب الانفصال بين الخطاب والسياسة على أرض الواقع، الأمر الذي حدّ من قدرة إدارة بايدن على الاستجابة للأزمة الحالية في السودان.