دول العالم الجديد وكسر قطبية الإعلام والشبكات
البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد
يرزح العالم منذ عقود تحت سطوة القطب الواحد مدعِ الحرية والديمقراطية وتحرير الشعوب، والذي يسفك دماؤهم وينهب خيراتهم ويصادر قرار دولهم في آن معاً، لكن هذا الواقع بدأ يتغير بقوة وعنف عبر محاولات تاريخية عديدة تنبهت في وقتٍ مبكر لسيطرة الغرب على كل المجالات في العالم وخاصةً الإعلامية، حيث دعت إلى التعددية الإعلامية منذ خمسينيات القرن الماضي، سواء في مؤتمر باندونغ وعبر مبادئ دول الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، ومؤتمر الأونيسكو عام 1977 وغيرها من المحاولات الكثيرة الساعية لتحرير شعوب جنوب العالم من سيطرة الغرب على إعلامهم وعمده إلى كسر محاولاتهم في التفلّت من هذه السطوة، داعين إلى النظر للعالم من وجهة نظر عالم الجنوب حالياً ومستقبلاً، وتعزيز دور المثقفين والشباب والقامات الإعلامية في التصدّي لهذا التوحش الإعلامي، وصنع حالة من التوازن بين الآراء في مختلف القضايا.
وبعد أن اشتدت الأزمات الاقتصادية التي عززتها بعض العوامل مثل عبث أمريكا بعملات العالم واقتصاده من خلال تسييس الدولار، وفرضها الكم الهائل من العقوبات الاقتصادية على العديد من الدول التي تغرّد خارج سرب سيطرتها، ناهيك عن تداعيات جائحة كورونا، وأخيراً تداعيات الحرب الأوكرانية والتوتر في منطقة آسيا – الهادي، فقد شهدنا أيضاً مجموعة من التغيرات الجيوسياسية الإيجابية لدول الجنوب التي أخذت تؤكد آراءها ومجابهتها للإعلام المسيطر عليه من قبل القوى الأمبريالية، ورغم بدأ الخطوات الجدية من تلك الأقطاب الصاعدة والاقتصادات الناشئة في العمل على كسر هذه الحالة من القطبية، نلاحظ أن الحلف الأنغلوساكسوني ما زال يصارع بقوة لبث وجهات نظره سواء في عقول شعوبه، أو حتى في عقول بقية الدول عبر تحكمه بأكثر من 80 % من قنوات العالم وإعلامه المصور ووكالاته الإخبارية، إضافةً إلى قيامه بشكل صريح بإغلاق الكثير من وسائل الإعلام، أو إقصاء الصحفيين والإعلاميين لمجرد موقفهم الرافض للحرب الأوكرانية، أو حتى دعوتهم للتفاوض مع روسيا، وما رافق ذلك من سلسلة من الاعتداءات التي طالت الصحفيين وحرياتهم في دول تعتبر نفسها مثالاً للديمقراطية يحتذى به من قبل بقية الشعوب، ناهيك عن تسيّد أمريكا لإعلام العالم عبر مشروع الانترنت الذي هو صنيعة وزارة دفاعها، والذي تسيطر على مواقعه وعناوينه بشكل كامل دون ارتضاء أي تدخل من أي قطب أو طرف بما في ذلك أوروبا نفسها.
إن دول العالم الثالث تعاني صعوبات جمّة في مواجهة هذا المدّ من الإعلام المتبني لليبرالية الجديدة وقيمها، وأهم الصعوبات تكمن في ضعف التمويل، وعدم وجود مراكز تمويل كبرى كتلك الغريبة، وضعف قطاع الإعلانات وسوقها، وضعف التقنية والأدوات والعجز عن صناعتها محلياً أو حتى استيرادها، ناهيك عن الفجوة في عدد القامات الإعلامية والمفكرين والباحثين والشخصيات المؤثرة ثقافياً في مجتمعات دول العالم الثالث، إضافةً إلى مشاكل البنية التحتية المتعلقة بقلة الكهرباء وضعف مواكبة التكنولوجيا وندرة الإنترنت وغيرها من التجهيزات الضرورية، وهذا كله للأسف صبّ في مصلحة المقلب الآخر الذي نشر رواياته وأبحاثه وسردياته دون أدنى منافسة.
أما صندوق النقد الدولي، تلك المنظمة المرتهنة لأمريكا وحلفائها، فقد كرّس عبر وصفاته الهيمنة الغربية على إعلام بقية الشعوب إبان انهيار الاتحاد السوفييتي، خدمةً لعولمة الإعلام الغربي المروّج للرأسمالية كـ”فكر اقتصادي وحيد قادر على البقاء في العالم” من وجهة نظرهم، وذلك من خلال رسم مسار موحّد لإفقار كل الشعوب وضمان تبعيتها.
كذلك عمدت الأذرع الغربية إلى خصخصة الإعلام الوطني ومؤسساته الإعلامية في تلك الدول، وما تبعها من خصخصة العقول وإخضاعها لثقافة الغرب المعلبة وقيمها الاستهلاكية، والمدعية بـ”مركزية الحضارة الغربية” و”الحلم الأمريكي” في تحقيق الثراء، وغيرها من الأكاذيب التي زادت من استعباد الشعوب وتدمير بلدانهم أكثر فأكثر.
يضاف إلى ذلك كله، الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة والغرب، وقيامهم بوضع بعض النخب “النيولبيرالية” في مراكز القرار لتنفيذ سياساتها في العديد من البلدان، ومصادرة أي ثورة تقوم بها الشعوب الساعية لنيل تحررها عبر الزخم الإعلامي المشجع للثورات الملونة، والتي خلقت بتوجيه غربي أسوأ واقع مستنقعي يمكن للغرب توظيفه عبر ما يعرف بـ”الفوضى الخلاقة”.
من جهتهما، روسيا والصين تنبهتا إلى خطورة الحروب الهجينة التي تُشنّ على البشرية من الغرب في وقت مبكر، إذ نجد أنهما صنعتا شبكات انترنت ومنصات تواصل اجتماعي خاصة بشعبيهما، ووفرتا في الوقت ذاته عدم عزل شعوبهم عن التقنية والتواصل العالمي من خلال جدران حماية نارية للمعلومات تمنع الاختراقات الخارجية المعادية للمواقع الوطنية، وتحافظ على أمن واستقرار مجتمعي الدولتين.
ما نلحظه بقوة الآن هو أن الدول الصاعدة تراهن على المتغيرات الدولية لتقوية وجودها على الساحة الدولية، وإعلاء صوتها لكسب المعركة الإعلامية ضدّ الغرب وسردياته ومجابهتها بالواقع والحقيقة والإقناع، وقد قامت دول جنوب العالم في منتدى “شنغهاي” ببحثٍ جدي لموضوع إنشاء شبكات للإعلام والاتصالات والمعلوماتية بهدف الحفاظ على سيادة دولهم والوقوف في وجه المزاعم والأكاذيب الغربية، والحدّ من الفجوة الإعلامية والمعلوماتية بين دول الجنوب ودول الغرب، والسعي لتأمين ما يتطلبه ذلك من مواكبة جميع التطورات، والتعاون وتوسيع الشبكات الإعلامية، وتعزيز الإنتاج الأكاديمي، ونشر محتويات متنوعة، وإنشاء جبهة اتصال دولية وشبكة اتصالات متعددة الأطراف تضم مجموعة من متخصصي الاتصالات من تلك الدول.
بالنهاية ليس من المعقول أن يبقى أقل من خمس سكان هذا العالم يسيطر على أربعة أخماسه إعلامياً وثقافياً وفكرياً، فلا بد من إرساء حالة المساواة في وجهات النظر والآراء للجميع، وهذا بالتأكيد سيتطلب تكثيف جهود وخطوات كل دول الجنوب والدول الصاعدة لدعم وصناعة الإعلام الوطني المقاوم، والتركيز على نشر تاريخ الشعوب، ونشر الأفكار حول عراقة إرثهم الحضاري، وحول معاناتهم مع الاستعمار الغربي، كما يتطلب ذلك الاعتماد على جميع الأدوات الممكنة بما فيها منصات المثقفين وتعميق تعاونهم مع بعضهم البعض وإقامة المنتديات الدورية لتطوير الإعلام وتأهيل كوادره، إضافةً إلى التعاون مع الحركات المعارضة الأوروبية التي بدأت تحشد الجموع المناوئة للإعلام الأنغلوساكسوني الذي خسر صدقيته وانفض عشرات الملايين من متابعيه عنه، بعد انكشاف مدى انحرافه عن الواقع وعدم نطقه بلسان حال الشعوب الأوروبية التي تعيش الآن أحلك أزماتها خدمةً لمشروع الهيمنة والحفاظ على القطبية، علّ كل هذه المحاولات تكلل بالنجاح في كسب المعركة ضدّ تلك الماكينة الإعلامية الضخمة التي لطالما كانت وبالاً على البشرية ومجتمعاتها بما فيها المجتمعات الغربية.