مجلة البعث الأسبوعية

“ناس ومطارح” فطيم الأحمد: بين “حمرة بلاسم” وحارات دمشق، أضاعت قلبها ووجدته في آن

تمّام بركات

دقائق قبل أن تجتاز الحافلة الأمتار الفاصلة بين الحدود الأردنية-السورية، وهدوء الركاب الذي كان يشغل بال السائق طوال الطريق، انقلب إلى نشاط بدأت حرارته بالارتفاع، لكن مساعد السائق استطاع أن يميز شغباً طفولياً يطغى على جو النشاط العادي، لركاب حافلة مسافرة، وعندما توجه ليعاين القصة، كانت السيدة “فطيم الأحمد” -41-عاماً، تُحاول أن تضبط حركة قلبها الذي صار يقفز ويتقافز في كل أنحائها، في اللحظة التي أوقفت فيها الحافلة داخل سورية.

عام 1994 فطيم أو فاطم كما يناديها الأهل والأصدقاء، تركت مدينة الرقة طفلة بجدائل مدرسية، وسافرت وأسرتها حيث يعمل والدها في الأردن عام 1994، إلا أن بعضاً عزيزاً منها بقي في قريتها “حمرة بلاسم” وهذا “البعض” كبر ونما في غيابها، حتى صار ذاتاً أخرى، منفصلة-متصلة عنها، لا يطيب لها مقام عيش إن لم تعتني به، وتولمه أيضاً من صحن قلبها، وهذا ما دأبت على فعله طوال أكثر من ثلاثة عقود، تسقي بعضها بزيارات للديار، حتى جاء اليوم الذي أصبح هذا مستحيلاً، الرقة يطوف بها الظلام، والموت يتربص، وفي شهر 11 من عام 2011، خرجت فطيم من دار والدها في قريتها، وتلك كانت آخر مرة تراها فيها حتى اليوم.

في الأردن تابعت فطيم دراستها التي حُرمت منها بسبب أقاربها، وما حاول الغير منعه، جاء الأب وبكل محبة، ليجعله ممكناً، عادت فطيم إلى مقاعد المدرسة، وتابعت تحصيلها العلمي، حتى تخرجت من الجامعة، والتحقت بالعمل في سفارة الجمهورية العربية السورية في الأردن.

تحكي فاطم بفرح عن المشاعر التي غمرتها، عندما قابلت العديد من أبناء قريتها، والكثير من أبناء بلدها، بعد عملها في السفارة، وربما لم يمرّ سوري على السفارة لشأن ما، إلا وقد منحته فاطم ما تستطيع من مساعدة، وحملته الكثير من السلام والشوق، فبعضها الذي مازال في دار أبيها، لم يزل يعض على الحنين، ويوجعها بالفقد، الذي اختبرته بقسوة لا تملك أمامها أن تمنع دموعها من الانهمار، ففي عام 2014 خسرت والدها، وبعد شعور قليلة خسرت أختها، التي استشهدت، وهكذا كبرت الفتاة فجأة، واستأجر الحزن وجدانها، لولا أن ربطت على قلبها، وقررت أن كل شبر في سورية هو قريتها، وكل بيت هو بيت أبيها في “حمرة بلاسم”

بدأت فطيم بزيارة الشام كلما استطاعت لذلك سبيلاً، وفي دمشق، في شوارعها وفي الدروب المتعرجة بين حاراتها، محاطة بالناس الذين تألفهم وتعرفهم كلهم كما تقول، بدأت روحها تهدأ من لوعتها، وبعضها الذي كان بعيداً، ها هو يقترب منها رويداً رويداً، ثم صارت الزيارات المتباعدة، حاجة وفرصة وأملاً تنتظره فاطم في كل عام، وخلال وقت انتظار الإجازة السنوية، تعود فطيم طفلة مشاغبة، لا يهدأ قلبها عن الخفقان، ولا تستطيع أن تصمت لخمس دقائق متتالية، تقول: “الموضوع ليس بيدي، انتبه أحياناً أمام أولادي إلى الحالة التي أكون فيها، قبيل موعد سفري، وأشكرهم أنهم تحملوا ولدنتي إذا صح الوصف”.

عام 2021 طافت مواقع التواصل الاجتماعي، صورة لسيدة ترتدي علم بلدها، في احتفال أقامته السفارة عام 2021، كانت فاطم تحمل صوان من ألفة مسقية بماء الورد، تطوف بها بين الضيوف، في قلبها حزن لم تلتئم ضفافه، لكن الحدث الذي تحتفل به فاطم، يعني لها الكثير، فهو يعني أن بلدها انتصرت، وأن الغيوم السود التي غطت سماء رقتها وقريتها، ستنقشع قريباً، وهذا وحده ما يعيد إليها “بعضها” المقيم على تخوم حلمها، هناك في “حمرة بلاسم” حيث لا ريب أنه ينتظرها، لا على “قلق” كأنه الريح، بل على وعد بأنها قادمة ليكونا صديقين ما دام الزمان.