النشاطات الثقافية والترهل الفكري
آصف ابراهيم
منذ سنوات، وأنا أتابع نماذج من نشاطات المؤسسات والجمعيات الثقافية في محافظة حمص. وخلال هذه الفترة، لم أسمع أو أتلقى ما هو جديد ومفيد على صعيد الصيرورة الثقافية السورية، فكل ما تسمعه وتتابعه هو بحوث مقتضبة مستنسخة من صفحات الشابكة التي يجود بها محرك البحث غوغل، ويتيحها لكل باحث عن ظهور واستعراض ثقافي فكري، أو من كتاب صادر من سنوات، أو تكرار لبحوث ومحاضرات ورسائل جامعية طواها الزمن من عقود، وأحياناً يتأبط بعضهم محاضرة يجول بها بين قاعات المراكز والاتحادات والروابط الثقافية يعيد إلقاءها على مسامع الأشخاص ذاتهم من “المتقاعدين” المهتمين بالشأن الثقافي أو الباحثين عن تسلية أو قضاء وقت بصحبة تروق لهم جمعتها.
ولكي تكتمل التمثيلية الاستعراضية تراهم يفتحون مجالاً للمناقشة بعد السرد المدهش لتنهال جمل المدح والإطراء والإعجاب على ما قدمه المحاضر من معلومات جديدة وتحليلات فريدة لم يسبقه إليها أحد.
محاضرٌ يلخص كتاب “ذاكرة الفن التشكيلي” ليتحفنا بمحاضرة عن تاريخ الفن التشكيلي في سورية، وآخر يتصفح كتاب “المستطرف في كل فن مستظرف” ليروي لنا حوادث طريفة في الشعر والقضاء والحكم وغيرها، وآخر يجمع من الشابكة تعريف للترجمة وشروطها وأصولها بالحرف ليقول لنا أن تجربته صارت مدرسة في الترجمة، وغيرهم يحمل في حقيبته رسالة الدكتوراه التي أعدها منذ أكثر من ثلاثة عقود، ويجول بها محاضراً ومنتدياً بين هذا المحفل الثقافي وذاك، أو ألف كتاباً في النقد جمعه من هنا وهناك يجتره كلما سنحت له الفرصة، وهكذا يتحول الحراك الثقافي إلى اجترار واستنساخ وجمعيات للمجاملة والمحاباة وتوزيع الإطراء المجاني على من يستحق، أو لا يستحق، لنكتشف في النهاية إننا نكرس حالة العجز والاستسهال ونصفق لها عندما نجعل من ثقافة الإطراء والمجاملة هي السائدة على حساب تشجيع وتحفيز البحث والدراسة والتحليل المجدد، لحد أصبحنا عنده عاجزين عن تحريض توالد الأفكار والخروج من أسر مسلمات أمهات الكتب وما استقي منها من نظريات وآراء وأفكار.
سنوات عديدة وأنا أنتظر مثقفاً ما أو مفكراً ما يبهرنا ويدهشنا بجهد وابتكار محدّث لكن دون جدوى، وعدوى الاستسهال تستشري بين الجميع لحد الاستخفاف بعقل وثقافة المتلقي، وتكريس حالة الترهل الفكري والتنميط الثقافي غير الخلّاق، ثم نجلس نتباكى على غياب جمهور الثقافة ونفور المتلقي، وتشتت الوعي الجمعي بأهمية ودور المؤسسات الثقافية، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي وغير ذلك من مشجب نعلق عليه أسباب عجزنا وفشلنا.
عندما كتب الدكتور طه حسين كتابه “في الشعر الجاهلي”، أثار عاصفة فكرية امتدت عقداً كاملاً، انطلقت بدءاً من العام 1926، وامتدت خارج حدود مصر لتشمل العالم العربي بأسره. اعتبر عميد الأدب العربي في بعض فصوله أن شعراء الجاهلية، إما أنهم غير موجودين أو أن الشعر المنسوب إليهم لم يكن لهم، ودعم فكرته بإثارة مسألة لغة التدوين، وتساءل: كيف كان التدوين باللغة العربية الفصحى وهي لغة القرآن رغم تعدد اللهجات في شبه الجزيرة العربية؟ ولم يجد تفسيراً سوى أنه دُوِّن من قبل المسلمين.
وعندما كتب أدونيس أطروحة كتاب “الثابت والمتحول” وقدم فيها نظرة نقدية إلى التراث العربي الأدبي والشعري والديني، وبحث عن أوجه التقليد والتجديد والإبداع والابتداع، طارحاً رؤية مختلفة للعربي اليوم بين تراثه الديني والثقافي، وتجرأ أن يقول إن العرب توقفوا عن الإنتاج المعرفي منذ سقوط بغداد، في منتصف القرن الثالث عشر، أعاد قراءة هذا الموروث بعين نقدية، بغية إنتاج معرفة جديدة.
وغيرهما من مفكرين عرب استطاعوا تحريك المياه الراكدة في الثقافة العربية، وأن كنّا اليوم لا ننتظر من مثقفي الراهن إحداث ثورة في بنية الثقافة العربية ومسلماتها، لكن على أقل تقدير الكف عن ادعاء المعرفة واستسهال اعتلاء المنابر، والاستخفاف بوعي المتلقي.