قلب أوراسيا يتحدى الغرب
هيفاء علي
كانت قمة الصين وآسيا الوسطى التي عُقدت الأسبوع الماضي في شيان، العاصمة الإمبراطورية السابقة، فرصة للرئيس الصيني لتعزيز توسيع مبادرة الحزام والطريق، التي تبدأ من غرب الصين، في شينجيانغ، لتنضمّ إلى جيرانها الغربيين، ومن ثم إيران وتركيا وأوروبا الشرقية.
في شيان، شدّد الرئيس الصيني على الجوانب التكميلية بين مبادرة الحزام والطريق، ومنظمة شنغهاي للتعاون، موضحاً مرة أخرى ضرورة التعاون والعمل معاً لإحباط التدخل الخارجي، وخاصة “الإرهاب والانفصالية والتطرف”. كانت الرسالة واضحة، وهي استراتيجيات الحرب الهجينة هذه مدمجة في محاولة الهيمنة لمواصلة تشجيع الثورات الملونة المتسلسلة، مضيفاً أنه يجب ألا يتوقف أنصار “النظام الدولي القائم على القواعد” عند أي شيء لمنع المزيد من الاندماج في “هارتلاند”، ويقصد بها هنا آسيا الوسطى. و”هارتلاند”، هي نظرية “قلب العالم” التي وضعها الجغرافي البريطاني “هالفورد ماكندر” وتقوم على المبدأ التالي: “من يحكم أوروبا الشرقية، يسيطر على العالم”.
وبحسب مراقبين، فإن ما تطوره بكين هو نهج متكامل من خلال ما لا يقلّ عن 19 قناة اتصال منفصلة، وجوهر الأمر هو تعزيز اتصال “هارتلاند” عبر ممر بريكس المركزي، وهذا يشمل، بشكل حاسم، نقل التكنولوجيا. يوجد حالياً العشرات من برامج التحويل الصناعي مع كازاخستان، و12 في أوزبكستان، والعديد منها قيد المناقشة مع قيرغيزستان وطاجيكستان، حيث توصف بكين بهذه البرامج كجزء من طرق الحرير المتناغمة. كما قدّم الرئيس الصيني تفاصيل الاتصال في خطابه الافتتاحي في شيان بإشارته إلى أن الطريق السريع بين الصين وقيرغيزستان وأوزبكستان الذي يعبر جبال تيان شان، والطريق السريع بين الصين وطاجيكستان الذي يتحدى هضبة بامير، ونفط الصين وكازاخستان، بالإضافة الى خط الأنابيب وخط أنابيب الغاز بين الصين وآسيا الوسطى الذي يعبر الصحراء الشاسعة، هي طريق الحرير اليوم.
حقيقة، تعكس الصين في عهد الرئيس الصيني شي جينبينغ مرة أخرى دروس التاريخ، وما يحدث الآن يعيد الذاكرة إلى النصف الأول من الألفية الأولى قبل الميلاد، عندما أثبتت الإمبراطورية الأخمينية الفارسية نفسها على أنها الأكبر حتى الآن. ولأول مرة في التاريخ، تمّ الجمع بين المناطق الممتدة من آسيا وإفريقيا وأوروبا، مما أدى إلى ازدهار التجارة والثقافة والتفاعل العرقي، وهو ما تعرفه مبادرة الحزام والطريق اليوم على أنها تبادلات بين الشعوب.
منذ نهاية الألفية الأولى قبل الميلاد، وحتى الألفية الأولى بعد الميلاد، شكلت منطقة شاسعة تمتد من المحيط الهادئ إلى المحيط الأطلسي التي تشمل إمبراطورية هان الصينية، ومملكة كوشان والبارثيين والإمبراطورية الرومانية، ومن بين آخرين منطقة تشكل حزام الحضارات والدول والثقافات. هذا، باختصار، جوهر المفهوم الصيني لـ”الحزام والطريق”، حيث يشير “الحزام” إلى هارتلاند، أي آسيا الوسطى، و”الطريق” يشير إلى طريق الحرير البحري.
منذ أقل من 2000 عام، كانت المرة الأولى في تاريخ البشرية التي كانت فيها حدود العديد من الدول، والممالك متجاورة على الفور مع بعضها البعض لمسافة لا تقلّ عن 11400 كيلومتر. لذلك ليس من المستغرب أن يكون طريق الحرير الأسطوري، أول طريق اتصالات عابر للقارات وُلد في هذا الوقت، حيث كان نتيجة مباشرة لسلسلة من الزوابع السياسية والاقتصادية والثقافية التي شاركت فيها شعوب أوراسيا عبر التاريخ، في وقت تسارع القرن الحادي والعشرين.
بعد كل شيء، الجغرافيا هي قدر، حيث تمّ عبور آسيا الوسطى من خلال هجرات لا حصر لها من شعوب الشرق الأدنى، الهندو أوروبية، الهندو إيرانية، والتركية، حيث كانت مركزاً للتفاعلات الثقافية المهمة (الثقافات الإيرانية، الهندية، التركية، الصينية، الهلنستية)، وقد عبرت منه عملياً جميع الديانات الرئيسية (البوذية، الزرادشتية، المانوية، المسيحية، الإسلام).
أما روسيا فهي تسير في طريقها الخاص، فخلال جلسة نادي “فالداي” الأخيرة، جرت مناقشة مهمّة حول الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى من حيث صلتها بالتفاعل بين روسيا والدول المجاورة لها الصين والهند وإيران، إذ ترى موسكو أن مفهوم الشراكة الأوروبية الآسيوية الكبرى هو الإطار الأساسي لتحقيق “التماسك السياسي” المرغوب فيه كثيراً في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي، في ظل حتمية عدم قابلية الأمن الإقليمي للتجزئة. وهذا يعني، مرة أخرى، إيلاء أقصى قدر من الاهتمام والحذر من المحاولات التسلسلية لإحداث ثورات ملونة عبر آسيا الوسطى. وتماماً كما هو الحال في بكين، ليس لدى موسكو أوهام بأن الغرب الجماعي لن يتردّد في تجييش آسيا الوسطى كجزء من حملة معادية للروس. ذلك أنه لأكثر من عام، كانت واشنطن تتعامل بالفعل مع “هارتلاند” في شكل تهديدات بفرض عقوبات ثانوية، وإنذارات نهائية قاسية. لذلك فإن آسيا الوسطى مهمّة فقط كجزء من الحرب الهجينة الجارية -وبطريقة أخرى- ضد الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين. لا توجد آفاق كبيرة للتجارة والتواصل في ظل طرق الحرير الجديدة، ولا شراكة حقيقية كما شراكة أوراسيا كبرى، ولا اتفاقيات أمنية في ظل منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ولا توجد آلية للتعاون الاقتصادي مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي.
وهكذا إما أن تكون “شريكاً” في فرض العقوبات أو تكون جبهة ثانوية في الحرب ضد روسيا، أو سيكون هناك ثمن يجب دفعه، و”الثمن” الذي حدّده المحافظون الجدد، والمسؤولون حالياً عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، هو نفسه دائماً حرب بالوكالة عن طريق الإرهاب، كما في خراسان، التي تكون خلاياها السوداء والنائمة جاهزة للاستيقاظ. ولكن موسكو تدرك جيداً المخاطر الكبيرة، ولهذا السبب يصل تقريباً كل شهر وفد روسي إلى طاجيكستان لتنفيذ “المحور نحو الشرق”، وتطوير المشاريع في مجالات الزراعة والرعاية الصحية والتعليم والعلوم والسياحة. وعليه، يجب أن تلعب آسيا الوسطى دوراً رائداً في توسع “بريكس+” الذي يدعمه قائدا البريكس، روسيا والصين، خاصةً وأنه يتمّ طرح فكرة مجموعة “بريكس+” في آسيا الوسطى بجدية من طشقند، وسيشمل ذلك إنشاء سلسلة متصلة استراتيجية بين روسيا والصين وآسيا الوسطى، وجنوب آسيا وغرب آسيا، وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وهي جميعها تغطي لوجستيات الاتصال والتجارة والطاقة والتصنيع والاستثمار والاختراقات التكنولوجية والتفاعل الثقافي.