مواطَنة
عبد الكريم النّاعم
في جلسة واحدة سمعتُ حادثتين وقعتا في بلدين أوروبّيين، فحرّكتا أعماقاً واسعة في داخلي، وصمتّ حزيناً دون تعليق، وحين أويتُ إلى الفِراش توقّفتُ عند معنى مفردة “المواطنة”، وهل هي في جميع بلدان العالم واحدة من حيث التجسيد؟!.
سأرجئ الكلام عن الحادثين حتى نهاية المقال، وأتساءل: هل المُواطَنة هي أن يكون المُواطن مسجّلاً في دوائر النفوس أنّه ابن هذا البلد؟!!.
بالتأكيد الجواب: “لا”، لأنّ الذين لعبوا دوراً شنيعاً في تخريب لحمة هذا البلد، وتسبّبوا له بأضرار فادحة، قديماً وحديثاً، فيهم مَن هو من أبناء سوريّة، إذن الولادة لا تعنينا في ذلك، بل الذي يعنينا هو أن يكون المولود حريصاً على ما يساعد على البناء.
إنّ المواطَنة الحقّة هي الوفاء والإخلاص للبلاد، ففي البلدان المتقدّمة لا يُنظر لِمَن فيه إلا من زاوية مدى نفعه لمجتمعه، أمّا اختيار طريقه إلى الله فذلك يعنيه وحده، وما يجري في شرقنا من تجذير لرؤى متخلّفة، إنْ هو إلاّ خطة احتلاليّة لتبقى البلاد والعباد في حالة من التفكّك، والضعف، ليسهل عليهم نهب ما فيها.
المُواطنة تعني، فيما تعنيه، صيانة أمن البلاد داخليّاً وخارجيّاً، وتحصين قدراته من جميع النواحي السياسية، والاقتصادية، والثقافية، وتأمين لقمة الخبز بكرامة، وضمان التعليم والصحّة، وتحقيق تكافؤ الفرص، لكيلا تتغوّل شريحة على بقيّة شرائح المجتمع، ولقد حقّقنا بعض ما هو حُلُم في أزمنة ليست ببعيدة، وهذا يدلّ على أنّ ذلك أمر ممكن، حين تتوفّر له القاعدة الماديّة الضروريّة، وحين تُدار الأمور بأيدي أناس مشهود لهم بـ “النظافة”، و”الكفاءة”، إذ لا بدّ من تحقّق هذين الشرطين: النّظافة والكفاءة، فأن تأتي بشخص نظيف، ساطع الوجدان، وتضعه في مكان ليس له، كأنْ تكلّف من هو خريج كليّة آداب بإدارة معمل فسوف يفشل، وأن تأتي بالكفؤ غير النّظيف فذلك يعني فتْح ثغرة في الحصن الذي تشيد، وسوريّة مليئة بالكفاءات.
المواطَنة لا تعني أن يكون الحاضر مُطمْئناً فحسب بل لابدّ من أن يكون مستقبل أبنائنا وأجيالنا القادمة أحد الاهتمامات الجذريّة حتى لا يأسنَ الماء.
الوطن ليس القبيلة، ولا العشيرة، ولا الطائفة. الوطن وعيٌ بما يجب أن تكون عليه الأمور، وحُسن إدارتها، وترسيخ كلّ ما يوصل إلى تفتّح إنسانيّة الإنسان.
أصِل إلى الحادثتين..
الحادثة الأولى، أحد السفراء السوريين، في بلد أوروبي، كان يشتري بعض ما يُهدى من السوق الحرّة، ويعطيها لموظّفي السفارة تكريماً وتشجيعاً، وكان بين هؤلاء الموظفين سوريّة متزوّجة من أحد مواطني ذلك البلد، وقد اكتسبت جنسيّته، وقُرْب عيد رأس السنة أحضر لها قنّينتي ويسكي، وليلة رأس السنة انتبه زوجها للقنّينتين، وسألها: من أين هذا؟ فأجابت أنّهما هديّة السفير، فأصرّ على أن تُسكبا فوراً في حوض المغسلة. وسألتْه بعد أن سكبتْهما: لماذا”؟ فقال هذا ليس من حقّنا كمواطنين، لأنّه يؤثّر سلباً على الاقتصاد؟
الحادثة الثانية مرويّة عن صاحبها، وهو مهاجر إلى بلد أوروبي، سمع صراخاً وتألّماً في شقّة مجاورة لشقّته، فتحمّس وقرع الباب فوجد جارته تتوجّع من آلام المخاض، فأنزلها إلى سيّارته، والوقت ليلاً، ولم يكن في الطريق أيّ شرطي، واندفع بسيارته متجاوزاً الشارات الحمراء، وبعد أيام جاءه تبليغ بضرورة مراجعة إحدى المحاكم، فذهب وسأله القاضي عن سبب مخالفته السير، فشرح له السبب، وسأل هو بدوره القاضي من أبلغَ عنه، وليس في الطريق شرطة، فاكتشف أنّ مَن أبلغ عنه هي التي أسعفها، وأنّها دفعت قيمة المخالفة.
تُرى هل وصلت الرسالة؟!!
أرجو ذلك..
aaalnaem@gmail.com