ثقافةصحيفة البعث

“في الكتاب امرأة أخرى” قد تكون أنيسة عبّود!

نجوى صليبه

“في الكتاب امرأة أخرى” عنوان يحرّض على قراءات متعدّدة، فهو يوحي بأنّ امرأة أخرى حقّاً في الدّيوان غير كاتبته الشّاعرة أنيسة عبّود، ومن جهة أخرى يوحي بأنّها تريد تحويل القارئ، بل وإبعاده، عن التّفكير بموضوع السّيرة الذّاتية وتجاربها ومشاعرها الخاصّة، وكأنّما تقول: لست أنا..، وأمّا القراءة الأخرى فتقودنا إلى أنّ الشّاعرة فعلاً هي التي تتنفّس في كلّ حرف وكلمة وقصيدة، وكأنّها تكتشف ذاتها من جديد بعد تغيّرات طرأت على شخصيتها وتفكيرها ما حوّلها إلى امرأة أخرى، تقول تحت عنوان “ومن الحبّ ما قتل”:

أنا

لا أحبّ قريتي

ولا صفصافها المنحني فوق الماء

ولا طفلةً تمشي حافيةً على العشب

وحولها تنبح الأهواء

ولا أحبّ باب بيتنا العتيق

عليه رسوم البرد والشّقاء.

إلى قولها:

لكنّي أصير قبّرةً حزينةً

وشجرة مكسورةً

وحبقة عطشى

كلّما ابتعدتْ

وأوغلتْ في ضياعها من يدي هذه الأشياء.

كما قرأنا تبدأ القصيدة بنفي حبّها لقريتها، وأثناء قراءتنا نهمس لذاتنا: هل حقّاً هذه الشّاعرة تكره قريتها؟.. ثمّ نستدرك: لا إنّها تحبّها حبّاً غريباً، لكن كلّ شيء جائز، وعندما نسير مع مشاعرها حتّى آخرها نعرف أنّها فتاة تيبس عروقها عندما تفارقها تفاصيل القرية الجميلة، كذلك تدخلنا في “صك الغفلة” بدوامة الذّات وحواراتها التي لا تنتهي والتي لا تعطينا جواباً عن صفةٍ محدّدة، تقول:

أنا الموقّعة أدناه –

امرأةٌ قاحلةٌ جرداء

سرقت منّي حبيبي

واختفت

امرأة

لها مخالب من الرّغبة

وأنفاسٌ من الحرائق ونهدةٌ شاسعةٌ كما الهواء

غوت رجلاً أحبّته

فحوّله إلى قرية خراب.

إلى قولها:

أنا هي التي وشت بي

من أجل هي

وهي

مجرّد قميصٍ

من قمصان الفناء.

ثمّ نتعرّف عليها عاشقةً هائمةً ومليئة بالذّكريات ومفعمة بالحب، لا توفّر حيلةً لكي تترك أثرها على نافذة المحبوب، تقول تحت عنوان “معاكسات”:

اشتقتُ

أن أعاكس الإشارات

أن أعترض الطّرق التي

لا تتعب من الرّحيل

اشتقت

أن أسرق ورد الجيران

وأرميه على نافذتك.

لكنّها امرأة قويّة يراهن الجميع على قوّتها ويدها الخضراء وروحها الصّافية، وهي التي لن تخيب ظنّ الجميع فيها، تقول تحت عنوان “رهان”:

ليراهن عليّ المدى

والبحر وجاراتي الحسودات

ورفيقاتي المجللات بالأسى

ما زلت متمسّكة بالدّهشة

أصوغ الحكاية

من بابها ومحرابها

حتّى آخر الكلام في سرّها.

ومعهم كلّ الحقّ في رهانهم، فلا أقوى من امرأة تسكن تفاصيل مدينتها أو قريتها كما تسكنها في شعورها وشعرها ومفرداتها بكلّ جمالها ودفئها، فها نحن نقرأ في أكثر من قصيدة أسماء أماكن معروفة في مدينة جبلة وريفها، من مدرسة محمد سعيد يونس وحديقة السّلطان إبراهيم وشارع العمارة إلى الفوّار وديروتان.. جبلة الغنية مدينةً وريفاً، ساحلاً وجبلاً، طبيعةً وبشراً، حاضراً وتاريخاً، مسخّرة لذلك مخزوناً فريداً من المفردات المحلية الدّافئة والجميلة والتي يرجعها باحثو التّراث واللغة إلى لغات الحضارات القديمة التي مرّت على المنطقة بما فيها اللغة العربية، لكن تكاسل البعض يحول دون معرفة أنّ كثيراً من الألفاظ المحلية هي مفردات عربية فصيحة تقول في قصيدة “رهان”:

ويراهن أنّي ساموكه العالي، وعليه قرآن وعلبة بخور وحجب

كأنّي لست التي ضيعت أقراط أمّها في أوّل لقاء مع اللهب.

“ساموكه” كلمة نادراً ما يستخدمها الشّعراء، ولاسيّما أولئك الذين يخوضون في غمار البيئة المحلية، كذلك الفعل “أزمّ” الذي يرد في قصيدة “الصّمت وأنا” من القليل جدّاً أن نقرأها في الشّعر، تقول:

ورميتُ البياضَ

ورحتُ أزمّ كيس اللغة

“يشلع” و”القرامي” و”شردقني” والفعل “كرج” التي يرد تحت عنوان: “أصدقاء في المخيّلة”:

ولا كرجت رسائله خلفي في سرافيس الكراج.

وتحت العنوان ذاته، تقصّ أنيسة عبّود حكايةً أخرى بانسياب وعذوبة ورقّة تسحبنا من لحظتنا إلى زمان نشتاقه ومكان لا يفارقنا، حكاية بنت وصبي عبرا حقول الـ”ديس” والبيوت القديمة إلى المدرسة والكراج وشوارع المدينة قبل أن يغيّروا هويتها، وكمتّهمة تنفي الفتاة أن تكون قد استعارت دفتر صديقها ونقلت عنه حلول الأسئلة، كما تنفي أن يكون قد كتب حولها موضوع تعبير ونشره في جريدة الحائط.

ولا توفّر الأديبة أنيسة عبّود تشبيهاً أو استعارة أو صفة لغزل عباراتها، فنراها تستعير من خصائص أشياء وتنسّقها وتلبسها لأشياء أخرى “حفراً وتنزيلاً”، فها هي تستعيض عن العطر بالليل، ولا ندري ماذا ستفعل بزجاجة الأرق، هل ستنثرها في نهر راكد أم ستعتّقها لحين الشّوق لها، فتفردها وتقلّبها وتبتسم ساخرة؟ تقول في “أسئلة للرّيح”:

ماذا لو أحببتك

وعبّأتُ الليل في زجاجات من الأرق

وسهرت

مع قمر يتمشّى في غرفتي على مهل.

وفي “غرباء في الشّوق” تقول:

حبستني أمّي

في منديلها

فتبرعت به للعاصفة

بعد موتها

وقطعت رسن الوقت

وتركته في البراري

طليقاً

يرعى

صوتها.

ولأنّ بعض همومنا الشّخصية متأتية من همومنا العامّة، فقد أثقلت أزماتنا روح الشّاعرة ككلنا، تقول تحت عنوان “تفاصيل النّشرة”:

جاء في النّشرة

الخبز متوفرٌ

لكنّه بلا ملح الأمّهات

يابس قليلاً

لأنّ الآباء ذهبوا إلى الحرب

ونسوه على النّار

فامضغوه مع الشّاي

أو مع حكاية الجدّات..

“نساء أخريات في امرأة واحدة” عبارة يمكننا النّطق فيها مع انتهاء القصيدة الأخرى وإطباق دفّتي الكتاب على أوجاعنا وذكرياتنا.

يُذكر أنّ الدّيوان صادر عن اتّحاد الكتّاب العرب- سلسلة الشّعر 2022، ويقع في 191 صفحة.