في ذكرى رحيل القائد المؤسس حافظ الأسد
د. معن منيف سليمان
في العاشر من حزيران عام 2000، فجع الملايين من أبناء الوطن والأمة بفقدان القائد العربي الكبير حافظ الأسد، الذي بذل حياته نضالاً في الذود عن القضايا العربية وحمل في ضميره هموم الأمة وفي قلبه الكبير آمالها وآلامها، فشكل رحيله في تلك اللحظات العصيبة خسارة فادحة للوطن، وسيظل اسمه حياً في ذاكرة أبناء سورية وستبقى سيرته تشكل صفحة ناصعة في تاريخ الصمود القومي العربي في معارك البطولة والكرامة على مرّ العصور.
لقد أسس القائد المؤسس حافظ الأسد القوة والمنعة لسورية، فكان باني سورية الحديثة وصانع أمجادها، حيث جعل منها بلداً محورياً في سياسات المنطقة ووزناً إقليمياً أسهم في رسم تاريخ المنطقة، وقد حمل في قلبه وعقله ووجدانه قضايا سورية، وكان وإياها كياناً واحداً همها همه وعزها عزه ونذر نفسه لأجلها حتى الرمق الأخير، وأثبتت قيادته التاريخية انتماء جماهير سورية، وانتماء الجماهير العربية إليه في كل الوطن العربي.
ومنذ فجر التصحيح، ظهر القائد المؤسس على رأس مسيرة الحزب والدولة والشعب، وملأ الفراغ التاريخي في حياة الحزب والوطن، وكان له فضل كبير في تحقيق انجازات مهمة وعظيمة في كافة مجالات الحياة. وفي كلمات القائد المؤسس نقرأ استعراضاً مفصلاً لتوجهات الحركة التصحيحية بدءاً بنهجها الجديد على صعيد الحزب، ثم الانفتاح على جماهير الشعب، وتحقيق التعددية السياسية والاقتصادية وإقامة التحالف الجبهوي بين الأحزاب السياسية السبعة، ودعم وتوسيع المنظمات الشعبية وتمكينها من ممارسة الصلاحيات التي تناسب حجمها ودورها في البلاد، ودعم النقابات المهنية وتوحيد ما كان مفتتاً منها (نقابات المحامين، والأطباء، والمهندسين) وإقامة مجلس الشعب ومجالس الإدارة المحلية.
وفي مقارنة نجريها لتاريخ سورية منذ الاستقلال حتى التصحيح عام 1970، أو لتاريخ النظام العربي الرسمي، أو لتاريخ النظم السياسية في العالم، سوف تعطينا أن قوة التجربة في نظام الديمقراطية الشعبية الذي رسم أبعاده القائد المؤسس حافظ الأسد ستبقى تتوهج بمنجزاتها، وزخم مسيرة جماهيرها أمام النظم الدستورية لعصرنا الراهن، أو لأنظمة العصور القادمة، طالما أن هذه الديمقراطية تُنتج، وتتجدد، وتتطور على أساس التقدم الاجتماعي لمجموع الشعب، وعلى قاعدة الموازنة المستمرة بين الهيكليات الموجودة، ونسبة التطور الحاصلة في مجرى مسيرة الحزب والدولة والمجتمع.
أصبحت سورية في عهد القائد المؤسس حافظ الأسد قلعة للشرفاء والمناضلين من أجل استعادة الحقوق العربية المغتصبة، وكان خير سند للمقاومة الشريفة والباسلة في لبنان وفلسطين، وحسبه فخراً وعزاً وخلوداً أنه لم يساوم على الحق العربي، وبقي شامخاً كالطود حاملاً راية النضال تهتدي بها الأجيال من بعده. وكان يرى ضرورة كشف الفرق بين مشروعية المقاومة الوطنية في الأراضي العربية المحتلة، وبين إدانة الممارسات الإرهابية لـ إلاسرائيلية. وكان مدافعاً قوياً عن استقلال العرب ووحدتهم وسيادتهم وحقوقهم الوطنية الأساسية فلم يطبع العلاقات مع الكيان الإرهابي المسمى “إسرائيل”، ولم يقبل أن يفرط بشبر أو ذرة من تراب سورية أو لبنان أو فلسطين.
كان رمزاً لصمود الأمة العربية في وجه الهجمة الصهيونية الشرسة، ولم يحنِ رأسه أمام أعتى القوى الغاشمة، بل وقف على ثوابت الأمة على الرغم من عدم التكافؤ في ميزان القوى والضغوط الشديدة التي واجهتها سورية في عهده، وبقي باستمرار مرفوع الهامة موفور الكرامة، يواجه أعظم الأخطار بالحكمة والشجاعة وبعد النظر يلتقط الفرص الضائعة، ويحول الضغوط الدولية والإقليمية في الوقت المناسب لصالحه، فكان رجل دولة حكيماً اجتاز امتحانات عصيبة، وقاد سورية في ظل ظروف صعبة جداً إلى برّ الأمان. وكان بحق رجل المواقف والصمود وضمير الأمة العربية ووعيها الحاضر الذي رفض كل إغراءات وضغوطات وإملاءات العنجهية الدولية ورحل وهو القائل: “مهما ضخمت مصاعبنا فالتسليم ليس خيارنا وإذا كنا قد مررنا بظروف صعبة، وما زلنا نمر بها، فيجب ألا يتسرب الضعف إلى نفوسنا أبداً”.
كافح القائد المؤسس حافظ الأسد من أجل حقوق الأمة سلماً وحرباً وظل حتى اللحظة الأخيرة من حياته متمسكاً بتحرير كل الأرض العربية المحتلة ببسالة في ميدان القتال، وحارب بحكمة في ميدان المفاوضات مع “إسرائيل”، حيث وقف بقوة وصلابة أمام الإحباط واليأس الذي استولى على الجو العام، واستطاع أن يبث الثقة والعزم في نفوس المفاوضين العرب، فكان مفاوضاً صلباً جداً ولم يكن من الذين يؤمنون بالسلام المبهم غير الواضح، ففرض احترامه لأنه كان يدافع عن مصالح أمته بروح وطنية واثقة، وكان يدافع بقوة عن السلام العادل، إذ أن فكرة “السلام العادل الشامل” هي من ابتكاره، فهو واحد من أبطال السلام فيما يسمى “الشرق الأوسط”، والمدافع الأول بكل حزم عن مصالح العرب في النضال من أجل السلام على الرغم من عرقلة الكيان الإرهابي، ومن يدعمه لجهود السلام. وامتلك قدرة فائقة وعالية في الحوار السياسي، وبالوقت نفسه كان أسطورة المقاومة والصمود ونموذج للشهادة والنضال، يحترم القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة كأساس شرعي لتحقيق العدالة في العلاقات الدولية، وتسوية الصراعات والنزاعات الإقليمية والدولية. يقول:”نحن أعلنّا مرّات عديدة ونعلن الآن أننا نريد السلام، السلام الذي يعيد الأرض ويعيد الحقوق، وينشر الأمن في المنطقة، أقل من ذلك هو استسلام، ولن تستطيع قوة في الدنيا أن تفرض علينا الاستسلام أبداً”.
وسيسجل التاريخ اسم حافظ الأسد كصانع للتضامن العربي وبانٍ لجسور التفاهم والتقارب ووحدة العرب وانتصارهم، فقد كان القائد المؤسس رمزاً عظيماً من رموز صمود الأمة العربية، وعنواناً للنصر والتحرير خاض معارك مشرفة نحو تحرير الأرض العربية في حرب تشرين التحريرية عام 1973، وفي تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، وفي موقفه الداعم للمقاومة الفلسطينية والانتفاضة العربية في الأرض العربية المحتلة في مواجهة العدوان الصهيوني، وفي التأكيد على التضامن العربي، وتوحيد كلمة العرب، وإزالة كل ما يعيق العمل العربي المشترك، ولهذا كان يحذر العرب من المعارك الجانبية. يقول:”يجب أن تشدنا الأمور الكبيرة قبل الصغيرة. وكل الأمور في حياتنا تهمنا، ولكن هناك أولويات، والأخطر هو الذي يجب أن ينال جهدنا”. ومن هنا جاء تأكيد القائد المؤسس على الحوار الموضوعي كأسلوب لحل جميع الخلافات، سواء فيما بين العرب أنفسهم، أو فيما بينهم وبين الدول المجاورة لهم، والتي لـ”إسرائيل” مصلحة في تسعيرها.
ستظل سورية قلب العروبة النابض تواصل مسيرة القائد المؤسس بالزخم والعزيمة نفسها، وبالإيمان نفسه، وستبقى بفضل قائدها السيد الرئيس بشار الأسد، وبفضل ولاء أبنائها البررة الميامين، عزيزة الجانب شامخة الهامة، عصية على أعدائها.