ثقافةصحيفة البعث

رواية “دِلْشاد.. سيرة الجوع والشبع” والسمات الملحمية

آصف ابراهيم

كثيراً ما تأخذ الرواية صفة التوثيق لمرحلة تاريخية معينة بحيثياتها الاجتماعية والسياسية الزمكانية، رغم طغيان المتخيل على فضائها الدرامي، والشعرية الوصفية والاستطرادية أحياناً، لكنها تبقى، كفن أدبي شمولي، النافذة التي يطل من خلالها القارئ على عوالم أخرى يجهلها وبعيدة عنه، وهذا ما يمكن سوقه على رواية “دلشاد.. سيرة الجوع والشبع”، للكاتبة العمانية بشرى خلفان، صاحبة جائزة كتارا للرواية العربية، والتي تقدم لنا رواية تحمل الكثير من سمات السيرة الملحمية سواء من حيث تعدد الأصوات والأجيال أو شعرية اللغة والوصف السردي، أو من حيث إعادة تشكيل الواقع التاريخي، وبناء الشخصيات بما اتسمت به من سعة وشمول وعمق زمني أتاح لها تصوير حركة المجتمع العماني والصراع الطبقي والقبلي والسياسي الذي تبلور في بدايات القرن المنصرم فترة الاحتلال الإنكليزي للمنطقة وإخضاعها لحكومة الهند البريطانية، تقول: “القائد الانكليزي يأمر الضابط الهندي، والضابط الهندي يأمر العسكري العماني فيأتمر دون سؤال..”.

في هذه الرواية، الصادرة عام ٢٠٢٢، بنحو ٥٠٠ صفحة، والثانية لها بعد رواية “الباغ” تضعنا أمام ملامح وسمات المجتمع العماني المتعدد الأعراق واللغات واللهجات في مرحلة ما قبل اكتشاف النفط، والمؤلف من خليط من العرب والبلوش واللوغان والزدجال وغيرهم من قوميات بلغاتها ولهجاتها وأنماط حياتها تتوزع في أحياء منفصلة عن بعضها البعض ضمن المدن العمانية، والتي تشكلت بفعل الموقع الجغرافي لتلك المدن كموانئ تجارية تؤمها السفن من الشرق والغرب محملة بمختلف أنواع البضائع من تجارة الرقيق إلى السلاح والتوابل والمواد الغذائية المختلفة، لكن السمة الأساسية لتلك القوميات هي الفقر والتخلف وطغيان المسلمات الدينية والأسطورية الخرافة على سلوكياتهم، وتحكم البعض بالتجارة والثروة “من مكاني تحت كنت أرى حارات البلوش والزدجال ولوغان وحارة الراوية ونخيل السادة، وآبار الهنامرة، ومزارع البانيان ومعبدهم، وتحت أرى المقبرة قائمة على مرتفع يطل على تشعبات الوديان..”

ومن ضمن هذه البيئة الغارقة في الفقر تخرج شخصية “دلشاد” المجهول النسب ليشق طريقه في متاهات الفقر والشقاء بعد أن تبنته حليمة وربته بين أولادها وزوجته من نورجيهان التي تموت بعد أن تلد له طفلة يسميها مريم، والتي يدفعه فقره وجوعه إلى تسليمها إلى عائلة لوماه الغنية لتخدم عندهم بلقمتها بعد أن بلغت سنها الحادي عشر، ويسافر على متن أحد المراكب المبحرة نحو بومباي في الهند ليضيع في زحمة الشوارع هناك، فينتقل محور القص في الرواية إلى أبنته مريم التي يمكن اعتبارها الشخصية المحورية ونموذج للمرأة الذكية المكافحة التي تحرص الكاتبة بشرى خلفان على تسليط الضوء عليها وتصوير دورها الفاعل في الحياة العمانية ومكانتها الاجتماعية والاقتصادية في بناء العائلة والارتقاء بها ثقافياً واجتماعياً.

بعد أن تدخل مريم بيت لوماه وتصبح الخادمة الشخصية لفردوس صاحبة البيت التي تعيش مع أخيها عبد اللطيف الذي يعمل في التجارة ويقضي جل أوقاته مسافراً بين الموانئ والبلدان، لكنه عندما يعود يسحره جمال مريم بنت دلشاد ويقرر الزواج منها متحدياً إرادة أخته فردوس الرافضة لتلطيخ اسم العائلة ومكانتها بالزواج من خادمة مجهولة النسب، لكنه لا يكترث لكلامها ولا يذعن لإرادتها ويتزوج من مريم التي تنجب له ابنة وحيدة هي فريدة التي تشغل كل حياته. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية بين دول المحور والحلفاء يتعرض ميناء عمان لهجوم من قبل غواصة يابانية تدمر المركب المحمل بتجارة عبد اللطيف فيلقى حتفه وتصبح مريم بلا سند أو معين فتنقلب عليها فردوس وتتوعدها بالطرد من المنزل وإعادتها إلى حاراتها الفقيرة بعد انتزاع ابنتها فريدة منها فتقرر الهرب متخفية تحت جنح الظلام مصطحبة معها ابنتها إلى مدينة مطرح، البعيدة عن عيني فردوس وجواسيسها، وتبدأ هناك بتأسيس عمل تجاري لها مستفيدة من خبرتها التي اكتسبتها من خلال عشرتها مع زوجها عبد اللطيف، وتقرر إرسال فريدة التي بدأت ملامح الأنوثة تظهر عليها لتعليمها الكتابة على يد الأستاذ علي ماستر، الذي يعجب بذكائها وسرعتها في التعلم، فيعهد إليها تعليم بعض الفتيات الصغيرات اللواتي تقص عليهن حكايات حفظتها صغيرة من والدها وأمها وعمتها والخادمات اللواتي يعملن في بيت لوماه، إلى أن تقع في عشق قاسم ابن الأستاذ علي الذي يراسلها ويطلب موافقتها على الزواج منه قبل سفره إلى النجف الأشرف لاستكمال تعليمه لكن الرواية تنتهي دون أن تخبرنا الكاتبة مصير فريدة وحبيبها قاسم الذي كانت ترى فيه قيس ومجنون ليلى، وخسروا حبيب شيرين، وغيرهم من عشاق قرأت قصصهم وأشعارهم في الكتب وسمعتها من أفواه من عاشت معهم.

تستخدم خلفان تقنية الأصوات المتعددة، أو ما يسمى بالبوليفونية، حيث يأخذ القص أطراف بعضه ليكمل المشاهد ويتكامل البناء، دون أي تدخل للراوي الذي يمنح شخوصية حرية مطلقة في التعبير عن ذاتها وإبداء وجهة نظرها فيما يجري حولها، لكن جميع هذه الأصوات تدور حول محور واحد هو مريم بنت دلشاد وتعاقب وتطور أحداث حياتها، ومن خلالها تضعنا خلفان أم سرد يمور بالتفاصيل الصغيرة والكبيرة والسير والمرويات الشعبية التي تحاول من خلالها سبر أغوار تلك البيئة الاجتماعية بملامحها الواقعية والمثيولوجية، بما تتمتع فيه من مقدرة ونفس طويل على بناء شخوصها وربطها بعضها ببعض وتوظيف المرويات والأغاني الشعبية في السياق المناسب والمشوق، وتقود شخوصها نحو مصير مبرر منطقياً ودرامياً، لا تصنع أو افتعال فيه، نادرة هي المشاهد الفائضة عن الحاجة في سياق السرد، كل شخصية أو تفصيل موظفاً في سياقه المنطقي والمكمل لبناء السرد، تقول على لسان مريم: “فصرت أهمس لفريدة وأحكي لها حكايات بنات نعش وأخبرتها عن الثريا التي يطاردها سهيل ويلف السماء خلفها إلى الأبد، أخبرتها بالحكايات التي حكاها لي عبد اللطيف عندما كنّا نبات وقت القيظ على السطح فيضع رأسي على زنده ويهمس لي بالحكايات والحب، وكانت هي تسمعني وتلمع عيناها بالدموع فأمسح رأسها وأحكم ضمي لها”.

رواية تفيض بالمشاعر الإنسانية، ودراما القهر والشقاء، غنية بالأحداث والتفاصيل والمعلومات التي تتناوب شخوصها العديدة على تزويد القارئ بها بدءاً من صراع القبائل على السلطة إلى أطماع الانكليز بالنفط، وحركة التجارة، وشح الموارد وعمل الصيادين، وتنوع القوميات واللغات إلى الثقافة والدين وتأثير المحيط الجغرافي كل تلك المعلومات تقدمها خلفان بلغة أدبية تفيض بالجمل الشعرية والسرد المكثف والمسلسل الغني بالصور والمشاهد السينمائية البانورامية، والأمكنة المتباعدة إلى حد ماثلت فيها أنماط الملاحم التاريخية الكبيرة.