رجال الدين.. كانوا موهوبين بأصواتهم الجميلة ويتقنون فن الموسيقا
فيصل خرتش
لم تكن الموسيقا والغناء أداتي طرب وتسلية، بل ارتبطا بالنواحي الدينية، وأقام المتصوفون احتفالاتهم باستخدامهم الآلات الموسيقية التي يرافق عزفها إنشاد المنشدين، حتى أنَ الطريقة المولوية كان أفرادها يدورون على أنغام موسيقية مطربة جداً، ويروى أنه ضربت نوبة السماع في أحد المنازل وكان فيها السنطير والناي والكمنجة والعود والوتر والشبَابَ، مع إنشاد الشعر والغناء والنقر باليد، وإنَ أحداَ لم ينكر ذلك، وكتب البيتماني كتاباَ أسماه “إيضاح الدلالات في سماع الآلات” وأخلف النابلسي إكثار الناس الكلام بين الخواص والعوام فيما يتعلَق بالآلات والسماع، وردَ البيتماني “إنَ السماع بالآلات كالمطر ينزل على أرض النفوس فتهتزَ وتنبت ما فيها من الأسرار الإلهية والتقادير العلمية الكامنة في خزائن النفوس، فإن كان طيباَ نبتت طيباَ وإن كان خبيثاَ نبتت خبيثاَ”.
ولقد برز العديد من رجال الدين ممن كانوا موهوبين بأصواتهم الجميلة والذين يتقنون لفن الموسيقا، وشاركهم في ذلك بعض المسيحيين كسليم الخوري “الذي اشتغل في فن الموسيقا وقصد أن يضبط الألحان العربية على الروابط الافرنجية فوضع مقدمة لتأليف مخصوص في هذا الفن”. ومن المسلمين عمر بن شاهين المتوفى سنة 1769م تفوَق بالموسيقا ودرس تلاوة القرآن بالألحان مع مراعاة التجويد، وأستاذه عمر البصير المصري الذي كان يعلمه كيفية الانتقال من نغم إلى نغم، وابن شاهين الذي كان يتلقى قراءة التحقيق والترتيل والوقف والابتداء، وكان أستاذه يباحثه في طول النفس إذ ربما درج ثلاث آيات أو أربعاَ من الآيات المتوسطات في نفس واحد. ولا غرابة أن يبرع في الموسيقا والغناء صالح المزور الخطيب في صالحية دمشق وقد وصف بأنه “حسن الصوت بارع بالموسيقا والألحان” ثمَ سعيد الشافعي 1704 ـ 1758 م “كان حسن الصوت له معرفة بالموسيقا” ومحمد سعيد القاسمي كان له معرفة بالموسيقا وأنغامها، ألَف قصيدة ضمن كلَ بيت من أبياتها اسم نغم من الأنغام الشرقية كلَها.
ورغم مواقف العلماء المتباينة من الآلات والغناء فقد مال بعض من العامة للاستماع والطرب، واستخدموا أدوات موسيقية مختلفة لعزف الألحان ومرافقة الغناء، وكان من هذه الآلات: العود ـ الكمنجة ـ الدف ـ النقارات ـ الدربكة ـ الرباب ـ المزمار ـ القانون ـ السنطير وغيرها، وسمعت ألحانها في المقاهي وبيوت الخاصة والعامة، وفي المتنزهات وعلى مستوى النوبات الرسمية للدولة في المواكب واحتفالاتها.
وكان السيران أو النزهة في بساتينها وجنائنها الغناء، تستوجب السماع في فصل الربيع والصيف، وإذا ما حلَ الشتاء استعاضوا عن ذلك بالاجتماع في المقاهي أو البيوت فيقيمون حفلاتهم فيها ويأتون بعوَادين وآلاتية.
من جهة أخرى احترف بعضهم الضرب على الآلات الموسيقية وكذلك الغناء، من كافة الطوائف بهدف الارتزاق، وكانوا يحيون الحفلات في بيوت الأغنياء والمتوسطين، وبلغت أجرة بعض هذه الفرق مئة قرش.
واستقبلت دمشق بعض الفرق الموسيقية من المدن الشامية، وقدمت تلك الفرق عروضها في المقاهي، ويذكر البديري الحلاق في أحداث سنة 1748م أنه “ورد إلى الشام ثلاثة يهود من مدينة حلب لهم مهارة في ضرب الآلات بأحسن النغمات، فصاروا يشتغلون في قهاوي الشام ويسمعهم الخاص والعام”.
وعلى المستوى الشعبي أحيا بعض الجعيدية والنور حفلات الأعراس والختان والنذور وغيرها، بالضرب على الطبل والنفخ بالمزمار، وجال بعضهم في أسواق دمشق وأمام دكاكينها يعزفون على مزمار القصب (المجوز) أو الشبابة أو الناي يسمعون السابلة أنغاماَ فيجذلون لهم العطاء.
ومع ذلك قام بعض الولاة العثمانيين ممن اتسموا بالتزمت والجمود بمنع حفلات الغناء والسماع ظناَ منهم أنَ ذلك يفتن الشعب عن عقيدته وإيمانه، فالكنج يوسف باشا الذي كان والياَ على دمشق أصدر أوامره في سنة 1807م بمنع (النوبات والآلات) وكانت الدولة العثمانية على مذهب أبي حنيفة النعمان الذي قال بكراهية الغناء وجعله من الذنوب، كما ضيق على بعضهم مما اضطرهم لإقامة حفلات الطرب في سراديب تحت الأرض كي لا يسمع صوتهم إلى الخارج، ومع ذلك تعرَضوا لغضب الوالي أو حاشيته أو الأغوات أو شيخ الحارة، ولقد تأثر في سلوكه هذا بتوجيهات شيخه النقشبندي الكردي مما دعا رجال الدين المسلمين للتدخل في الأمر وكلموه عن الخلل الحاصل منه وأنه ينافي مذهب الإسلام، وأشاروا عليه بطرد الشيخ الكردي من عنده فقبل كلامهم وطرد الشيخ وأظهر لطفاَ وعدلاَ، كما ورد في حوادث الشام ولبنان.