مجلة البعث الأسبوعية

غلاف الكتاب.. عنصر مهمّ وكمين لا نتمّناه لقارئ أو ناقد

نجوى صليبه

كنت ـ ومثلي الكثير ـ عندما أهمّ بقراءة رواية من روايات نجيب محفوظ أتوقّف كثيراً عند اللوحة المرسومة على غلافها، وأسرح في معاني النّظرة والحركة والشّعر واللباس والفكرة، وأتساءل متى أصل إلى الصّفحة التي تتحدّث عن فكرة اللوحة أو الرّسم.. سؤال قرأت إجابته النّهائية في بعض الرّوايات بينما بقي في أخرى مفتوحاً إلى أوسع مدى.. ومع مرور الأيّام والسّنوات وتسارع المتغيّرات وتطوّر الأدوات والتّكنولوجيا افتقدت تلك الأغلفة، وصرت أرى أغلفة مختلفةً تماماً، بعضها يوحي بالمحتوى، وبعضها الآخر يغرّد في سماء أخرى.

قد يكون غلاف المنتوج الأدبي آخر ما يفكّر فيه مؤلّف ما، وقد يعدّه آخر عنصراً أساساً ومهماً في نجاح هذا المنتوج أو فشله، كذلك الأمر بالنّسبة للنّقاد والباحثين، فقد يراه أحدهم مدخلاً لمحتوى لا بدّ من التّمهيد له بعنوان جاذب أو لوحة مستوحاة من تفصيل مهم أو حدث مميّز لدى المؤلّف، يقول القاص والرّوائي عبد الله النّفاخ: الغلاف عتبةٌ نصيةٌ أساسيةٌ، وهو في مبدئه بوابة الولوج إلى عالم النّص، لذلك يجب أن يكون رامزاً وجامعاً لأكثر مقولات النّصّ ورموزه، ولطالما عددت ذلك الأصل في انتقاء غلاف أي كتاب لي، فيهمّني في المقدمة أن يكون موارباً بالدّلالات التي تحتشد في النّص، فيرغّب القارئ في هتك أستاره ويطمئنه أنّه لن يكون بسيطاً لا سهل التّناول، هناك روايات غرّني عنوانها مثل “الأرض” لعبد الرحمن الشّرقاوي و”ساق البامبو” لسعود السّنعوسي، قرأتها ولم أحسن إتمامها.

وتحت مظلّة الغلاف تنضوي تفاصيل كثيرة، كالعنوان مثلاً، يقول الشّاعر ثائر محفوض: العنوان اسم والاسم يعرف بالجسم، وفي كثير من الأحيان يكون الاسم هو مدخل الكتاب كما الباب في المنزل، وقد يكون هذا المنزل كوخاً أو بيتاً عادياً أو قديماً أو قصراً، لكن من الجميل جدّاً أن يحقق هذا العنوان الاختصار والتّكثيف الشّديد لمضمون الكتاب، مضيفاً: قد يكون العنوان مأخوذاً من الموضوع الأكثر أهميةً في الكتاب، والكثير من الكتّاب يعنون مؤلّفاتهم بعناوين وأسماء مغرية لكن سرعان ما يدرك القارئ إن كانت روح المؤلّف ووجدانه موجودة في كتابه، وهنا تكمن مصداقية المؤلّف حتّى مع ذاته، لذا من الجميل أن يكون العنوان جذّاباً والأجمل أن يكون منسجماً مع مضمون المنتوج الأدبي، كذلك الأمر بالنّسبة لما يكتب على الغلاف، يجب أن نفكّر ونتساءل: هل ما يكتب يهدف إلى إظهار الكاتب والمؤلّف؟ أم أنّه يهدف إلى رمزية مكنون الكتاب ومحتوياته؟، لذا أقول على العنوان أن يكون دليلاً نيّراً ومدخلاً صحيحاً للكتاب، لا كميناً للقارئ، وهو لا يتجزّأ عن العمل الإبداعي أبداً.

اللوحة أو الرّسم أمرٌ مهمٌ في تصميم الغلاف، وإن كان البعض في الآونة الأخيرة بسبب الأوضاع الاقتصادية يلجأ إلى الإنترنت ويختار منه صورةً جاهزة لا تكلّفه شيئاً وكأنّه يقول الغلاف مجرّد تحصيل حاصل، ولأنّ غالبية الأغلفة توقّع باسم فنّان تشكيلي، كان لابدّ من معرفة كيفية تعامل الفنّان مع المنتوج الأدبي الذي بين يديه، والسّؤال عمّا إذا كان يقرأه قبل البدء بتصميم غلافه أو يتناقش والمؤلّف ويتبادلان الأفكار، وعمّا إذا كان المؤّلف يترك له حرية العمل، تساؤلات يجيب عليها الفنّان التّشكيلي خالد حجّار بالقول: هذا يعود إلى نوع الكتاب سواء أكان علمياً أم أدبياً أم إعلانياً الخ.. بعض الكتب تحمل في طياتها أفكاراً مستقبليةً وهنا من الممكن أن يكون الغلاف خارجاً عن المحتوى وقريباً من توقّعاتها، وفي جميع الأحوال من الأفضل قراءة المحتوى والمناقشة مع المؤلّف وهذا هو المفروض، لكن ما يحدث عادة هو إرسال بضعة سطور من قبل المؤلّف تلخّص محتوى الكتاب أو توجّهه ومن خلالها أستطيع إنجاز التّصميم المناسب، وأنا عادة لا أترك مساحةً كبيرةً للمؤلّف في التّدخّل بالتّصميم إلّا فيما يخصّ المادّة الدّاخلية بشكلٍ مباشرٍ.

وبالسّؤال عمّا إذا كان للعنوان أي أثر في التّصميم، يوضّح حجّار: بالتّأكيد، ولاسّيما إن كان عنواناً قوياً وله قدرة على جذب القارئ، لكن إن كان ضعيفاً وتقليدياً فمن الأفضل دعمه برموز التّصميم من أجل خلق عنوان بصري يرسخ في الذّاكرة.

رحلةٌ طويلةُ يقضيها الكتاب إلى أن يصل إلى النّاقد والصّحفي الذي سيقدّم قراءة نقديّة شاملةً لا يستثنى الغلاف منها في كثير من الأحيان، تقول الزّميلة لبنى شاكر: لا أرى غلاف الكتاب بمعزل عن بقية العناصر: اسم المؤلّف والعنوان والموضوع المكتوب، هل هو رواية مترجمة أو كتاب عن التّاريخ أم شعر أم حكاية، لذلك هو لا يدفعني إلى شراء كتاب وقراءته كما أنّه لا يمنعني عن ذلك ولا يؤثّر على حكمي، لكن أحياناً عندما أنتهي من قراءة كتاب ما أحاول الرّجوع إلى الغلاف لأرى إن كان هناك رابط بينه وبين ما قرأت كفكرة أو حالة، ومعرفة إن كان هناك ينتمي إلى روح المؤلّف التي شعرت فيها أثناء القراءة، فهناك كتّاب يعدّون الغلاف باباً للدّخول إلى هذا البيت، أمّا أنا فلست كذلك.

في الحقيقة موضوع أغلفة الكتب أمر شّيق وممتع ومهم وتفاصيله كثيرة، لدرجة أنّ المصمم والباحث المصري محمود الحسيني منذ بضع سنوات أطلق في عام 2020 مشروعاً خاصاً ومتخصصاً فقط بأغلفة الكتب هو “أرشيف تصميم الغلاف العربي”، والذي يغطّي فترة زمنية ممتدة من منتصف الأربعينيات إلى منتصف التّسعينيات، أمّا فترة الثّلاثينيات فبيّن الحسيني بإحدى المقابلات الإعلامية بأن لديه بعض الكتب الصّادرة في تلك الفترة لكن ليس فيها ما يمكن تسميته بالتّصميم، بل كان فيها وعلى حدّ قوله: “بعض تخطيطات الطّباعة الميكانيكية المثيرة للاهتمام”، منوّهاً بأمر لا يخفى على أحد، لكن لابدّ من ذكره وهو أنّ الثّقافة العربية عرفت مصممين كثر هم في الأساس فنّانون تشكيليون، يذكر منهم نذير نبعة ويوسف عبد لكي من سورية، وضياء العزّاوي من العراق، وإميل منعم من لبنان ومحي الدّين اللباد من مصر.