مجلة البعث الأسبوعية

مناورات الناتو الجوية.. ردعٌ أم تحسّبٌ للأسوأ

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي

لا شكّ أن الأنباء الأخيرة القادمة من الجبهة في أوكرانيا لا تبشّر بالخير بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي “ناتو” الذي يدرك جيّداً أن المعركة القائمة في أوكرانيا، هي حرب غير معلنة يشنّها الحلف على روسيا عبر النظام الأوكراني، فالأسلحة المستخدمة في الجبهة تؤكّد أن الجيش الأوكراني لم يعُد يملك من العتاد ما يؤهّله للاستمرار في هذه الحرب لحظة واحدة، غير أن منظومة الغرب الجماعي تصرّ على الاستمرار في هذه الحرب على روسيا حتى آخر جندي أوكراني، وربّما حتى آخر مرتزق يتم استخدامه في هذه الحرب.

الصور الأخيرة التي عرضتها وسائل الإعلام الروسية للأسلحة الغربية التي تمّ تدميرها أثناء صدّ الهجوم الأوكراني المضاد غير المعلن، أحدثت صدمة كبيرة لدى الدول الغربية التي عوّلت كثيراً على هذه الأسلحة في إحداث خرق في الجبهة، فكانت هذه الصور بمنزلة صفعة روسية قوية للدول الغربية التي أرسلت إلى الجبهة الأوكرانية فخر إنتاجها من المدرّعات والدبابات وكاسحات الألغام المتطوّرة ظنّاً منها أن ذلك يمكن أن يحدث ضغطاً على الجانب الروسي يجبره على إيقاف عمليّته العسكرية الخاصة التي استنزفت الغرب الجماعي بالكامل بدل أن تتحوّل إلى حرب استنزاف للقوات الروسية كما كان يحلم الغرب.

فقد نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن جنود أوكرانيين قولهم: إن معظم عربات المشاة القتالية من طراز “برادلي” تم سحقها خلال الهجوم المضاد وإنهم فقدوا معظم تلك العربات.

وأكد جنود إحدى الوحدات الأوكرانية تدمير 8 عربات برادلي من أصل 9 تابعة لوحدة المشاة الآلية.

وعند سؤال أحد الجنود عمّا إذا تمّت السيطرة على أي منطقة، قام بتشكيل السبابة والإبهام مع بعضهما في دلالة على عدم وجود أي إنجازات مهمّة لهم.

وقال ضابط أوكراني لوكالة الصحافة الفرنسية: إن مواقع القوات الروسية في المعركة “محمية جيداً”، وتساءل بغضب “من سيكون سعيداً بتلقي أوامر الهجوم على القوات الروسية؟، فليذهب ويأخذ المواقع الروسية المحمية جيداً؟”.

وفي السابق، عُقدت عدة اجتماعات لمجموعة الاتصال بشأن دعم أوكرانيا من دول الناتو وحلفائها في قاعدة “رامشتاين” الجوية في ألمانيا، كما نوقش توريد الأسلحة والمعدات العسكرية إلى كييف فيها.

وتعدّ قاعدة رامشتاين الجوية معقلاً للقوات الجوية الأمريكية شمالي ألمانيا، ومقراً للقوات الجوية الأمريكية في أوروبا (القوات الجوية الأمريكية في أوروبا، USAFE) وأحد قواعد الناتو، وتقع بالقرب من بلدة رامشتاين في ولاية راينلاند بالاتينات الفيدرالية، وهي أكبر معقل للقوات الجوية الأمريكية خارج الولايات المتحدة.

ويتمركز في القاعدة نحو 15 ألف عسكري ويعمل حوالي 30 ألف متخصّص مدني.

ويبدو واضحاً أن خيار الهجوم المضاد الذي اتّخذ في هذه القاعدة والذي عوّل عليه حلف شمال الأطلسي قد سقط مع سقوط المدرّعات والدبابات الغربية المتطوّرة في الجبهة، وبالتالي فإن على الحلف أن يبحث عن خيارات أخرى، من بينها طبعاً ردع الجانب الروسي وإلزامه بعدم التوسّع غرباً باتجاه وسط أوكرانيا الذي أصبح ساقطاً عسكرياً بحكم سقوط أغلب الألوية الأوكرانية في الهجوم المضاد الفاشل حيث كانت تشكّل خط الدفاع الأخير عن كييف، ومن هنا بدأ حلف شمال الأطلسي بالتنسيق مع ألمانيا مناورات “اير ديفندر 23″، التي تعدّ الأضخم في تاريخ الحلف.

وحسب وكالة فرانس برس، زعم قائد القوات الجوية الألمانية الجنرال إينغو غيرهارتس أن هذا التحالف دفاعي، وأنه تم التخطيط للمناورات على هذا الأساس، مشيراً إلى أن الرحلات الجوية بالقرب من منطقة كالينينغراد لم يتم التخطيط لها خلال التدريبات، وأن التدريبات نفسها لم تكن استفزازاً ضد روسيا.

وتستمر المناورات حتى الـ23 من الشهر الحالي، وتضمّ 250 طائرة من 25 دولة عضو في الأطلسي وشريكة له بما فيها اليابان، والسويد الدولة المرشحة لعضوية الحلف، كما يشارك فيها نحو 10 آلاف شخص.

وستشمل المناورات تدريباً عملياتياً وتكتيكياً، وخصوصاً في ألمانيا وأيضاً في جمهورية   التشيك وإستونيا ولاتفيا.

وتعليقاً على ذلك، قال خبراء: إن مناورات الناتو العسكرية التي ستنطلق اليوم في ألمانيا وتعدّ أكبر مناوراتٍ جوية للحلف منذ نهاية الحرب الباردة، هي من أجل ردع روسيا في حالة عدم اليقين بشأن الصراع الأوكراني.

ويرى ألكسندر كامكين، كبير الباحثين في معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، أن تدريبات الناتو هي رسالة لروسيا في سياق الصراع الدائر في أوكرانيا.

ولفت كامكين إلى أن حجم التدريبات أكبر بكثير من كل المناورات التي أجريت في السنوات السابقة، و”مرتبطة بالمسار العام نحو عسكرة الدول الأوروبية في الظروف الحالية”.

وتابع كامكين: “يمكن القول بشكل لا لُبس فيه إن هذه خطوة موجّهة ضد روسيا”.

كذلك أشار، ديمتري دانيلوف، رئيس قسم الأمن الأوروبي في معهد أوروبا التابع لأكاديمية العلوم الروسية، إلى حجم التدريبات المقرّرة للناتو، مؤكداً أنها تشمل “كمية كبيرة غير مسبوقة من معدات الطيران”.

وقال: “إننا نتحدّث عن تنفيذ عمليات محتملة في إطار التخطيط، مع الأخذ في الاعتبار  الأزمة الأوكرانية الحالية وتطوّر الوضع العسكري والسياسي في المنطقة”.

وأضاف: “من الواضح في هذا الصدد أن ردع الناتو لروسيا هو هدف ذو أولوية في التخطيط العسكري والسياسي للحلف”.

ووفقاً له، فإن الاتجاه الرئيسي لهم هو تطوير سيناريوهات وأعمال التحالف بموجب المادة 5 الخاصة بالضمانات المتبادلة، التي بموجبها يعدّ الهجوم على أحد أعضاء الحلف في أوروبا أو أمريكا الشمالية هجوماً على التحالف كله.

وإذا كان مفهوم الردع ينطوي على عدة معانٍ، من بينها تلويحٌ باستخدام القوة ضد طرف آخر لمنعه من القيام بعملٍ يهدّد مصالح الطرف الرادع، كما أنه منع دولة معادية من اتخاذ قرارٍ باستخدام أسلحتها، وبصورة أعم منعها من العمل أو الرد إزاء موقفٍ معينٍ، عن طريق اتخاذ عدة إجراءات (مثل التلويح باستخدام القوة العسكرية) ما يشكل تهديداً كافياً للدولة التي تريد الإقدام على القيام بعملٍ ما، فإن المفهوم هنا يمكن أن يخرج إلى معانٍ أخرى من بينها الخوف من تدحرج الأمور نحو الأسوأ بعد أن شعر الطرف الروسي بالنشوة إزاء انتصاراته العسكرية على الخطط الأطلسية في الميدان، الأمر الذي يدفعه ربّما لاستكمال هذا الانتصار في الغرب، وبالتالي فإن الخوف من ردّ الفعل الروسي على الغرب يشكّل دافعاً أساسياً لهذه المناورات.

إن الردع كسياسةٍ ينصرف إلى نقل موقفٍ معينٍ، أو نيةٍ إلى الخصم من أجل العدول عن فعل باشر به، أو الابتعاد عن نية القيام بفعل لا يرتضيه المُهَدِّد، وهو كاستراتيجية يسعى إلى توظيف وسائل القوة عن طريق التلويح باستخدامها؛ لضمان أوضاعٍ لا يرغب الطرف الرادع أن تتغيّر، ذلك لأنها تتوافق وتنسجم مع أهداف سياسته العليا، ولكن الواقع هنا يؤكّد أن الحلف هنا بات يشعر بتهديده وجودياً بعد هزيمته الساحقة في الميدان، لأنه يدرك جيداً أن المهزوم في هذه الحرب هو منظومته العسكرية وليس أوكرانيا.