القطاع الزراعي حقل واسع لاستثمارهما.. التكامل التجاري والشراكة مع الغير بشروط سيادية مطلب إستراتيجي كفيل برفع مؤشرات النمو
البعث الأسبوعية – حسن النابلسي
لاقتصاد أي دولة خصوصيته التي تتكامل فيها أطياف قطاعاته المختلفة مشكلة طابعه النهائي ضمن معادلة تبين مدى قوته ومنافسته وصموده أمام اقتصادات الدول الأخرى.
لعل معيار قوة الاقتصاد تتأتى من مدى قوة صادراته وغزو منتجاته وصناعاته للأسواق العالمية، بمعنى أن ألا يكون الاقتصاد مرتكزا على الريعية والخدمية دون الإنتاجية، ما يدعم في نهاية المطاف الميزان التجاري وترجيح كفة الصادرات على حساب كفة المستوردات.
في المقابل هناك كثير من الدول غير الصناعية تتمتع باقتصاد قوي (ظاهريا) بحكم أن عائدات النفط هي من تدعم ميزانها التجاري الذي يغطي على محدودية صادراتها الأخرى، ما حدا ببعض المراقبين إلى وصفه بالاقتصاد غير الآمن كون عوائد النفط لا توجه – عادة – نحو الاستثمارات الحقيقية وخاصة الصناعية منها التي توصف برأي ذوي الخبرة بأنها قاطرة النمو.
أوراق رابحة
دول أخرى.. كفة مستورداتها ترجح على كفة صادراتها رغم ما لديها من مواد أولية وصناعات ومنتجات زراعية إستراتيجية من شأنها – على أقل تقدير – أن تعدل كفة الميزان التجاري لديها، لكنها تبقى خارج إطار التبادل التجاري لأسباب ردها البعض لعدم جودتها وضعف منافستها، والبعض الآخر اعتبرها أوراقا رابحة بيد الدولة لفتح أسواقا عالمية جديدة من منطلق المعاملة بالمثل مع كبار شركائها التجاريين من الدول الأخرى، بحيث تقوم بإجبار شركائها أو الضغط عليهم – إن صح التعبير – باستيراد ما تنتجه بقدر يوازي أو شبه يوازي ما يصدرونه إليها، خاصة إذا كان الشركاء يستوردون تلك المنتجات من دول أخرى.
شراكة ولكن!
سورية من الدول التي تمتلك مثل هذه الأوراق الرابحة لاسيما المنتجات الزراعية ومنتجات التصنيع الغذائي، التي باتت بحاجة إلى أسواق عالمية جديدة لاستيعابها، ولدى سورية بنفس الوقت شركاء تجاريين لا يشاطرونها هذه الشراكة كما يجب، ما أدى لتعالي بعض الأصوات المطالبة بتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، فإما أن يستوعب الشركاء منتجاتنا ويكونوا بالفعل شركاء حقيقيون، أو يتم فرض رسوم جمركية على منتجاتهم المستوردة إلى سورية وفتح علاقات تجارية جديدة تغني عن منتجاتهم.
وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة الاستفادة من أخطاء الماضي، فقبل العام 2011 كانت دول الاتحاد الأوروبي أكبر الشركاء التجاريين مع سورية وعلى رأسها إيطاليا من الدول الأجنبية، والعراق ومصر والسعودية من الدول العربية، ومع ذلك لم يكن مبدأ المعاملة بالمثل مطبق مع هؤلاء الشركاء واعتباره قاعدة ثابتة في العلاقات التجارية بين الدول، وإنما كان يطبق في حال اتخاذ إجراءات تخالف أحكام الاتفاقيات الموقعة بين سورية والدول الأخرى، وكمثال على ذلك ونذكر أنه في تلك الحقبة عندما فرضت مصر رسوما على الغزول السورية، قامت الحكومة من باب المعاملة بالمثل بفرض رسوما على السيراميك المصري!
استعمار جديد!
وصف أحد الاقتصاديين الشراكة مع أوروبا آنذاك بـ “الاستعمار الجديد” لاعتبارات تتعلق بعدم رجاحة كفة هذه الشراكة لصالح سورية، وفرض الشركاء شروطاً تمكنهم من قطف الثمار على حساب السوريين، فضلاً عن تماثل كثير من المنتجات الزراعية للدول الواقعة في حوض المتوسط، ما يعني أن أسواقها لن تكون مفتوحة لمنتجاتنا الزراعية وعلى رأسها الزيتون وزيت الزيتون، والحمضيات وغيرها، ولعل من فضائل الأزمة الحالية رغم قسوتها – إن صح التعبير- هو تفكير الحكومة بالتوجه شرقاً واعتماد شركاء جدد أكثر وأشد حاجة إلى منتجاتنا من الأوروبيين، بمعنى حدوث حالة من التكامل بالتعامل معهم، بحيث يفتحون أسواقهم لمنتجاتنا، ونستقطب خبراتهم العلمية والتكنولوجيا لرفع سوية إنتاجنا، وهنا على سلطتنا التنفيذية العمل على اتجاهين الأول تكتيكي ويتمثل باستدراك الواقع الحالي وترميمه، بحيث نتمكن من تجاوز الأزمة بأقل الخسائر الممكنة إثر العقوبات التي فرضها شركاء الماضي، والاتجاه الثاني إستراتيجي يعتمد على وضع خطط مستقبلية ترتكز على تطوير آليات التعامل الاقتصادي، وفي مقدمتها الزراعة كون سورية بلد زراعي بالدرجة الأولى.
تكامل!
نعتقد -وعلى وقع انتظار نتائج الانفتاح الاقتصادي المرتقبة على عدد من الدول- ضرورة اعتماد مبدأ المعاملة بالمثل، أو الأخذ بعين الاعتبار مبدأ التكامل التجاري مع النظراء على أقل تقدير، إذ أن التعامل الاقتصادي في هذه المرحلة منصب على الدول الشرقية وعلى رأسها روسيا والصين وإيران، كما أن هناك عدد لا بأس به من دول آسيا وإفريقيا مثل ماليزيا والهند وجنوب إفريقيا وغيرها يمكن تعزيز العلاقات الاقتصادية معها، فهي دول مشهود لبعضها بالتنمية الاقتصادية، والبعض الآخر يبحث عن موارد زراعية بغية تحقيق أمنه الغذائي، وبالتالي فإننا أمام فرصة علينا اغتنامها لتحقيق شراكة تكاملية بعيدة عن الغبن، فالصين رغم مساحتها الشاسعة -على سبيل المثال- تسعى للبحث عن أراض جديدة للاستثمار الزراعي، كونها تمتلك كتلة بشرية هائلة مستهلكة، وبنفس الوقت لديها الإمكانيات الكبيرة لتصنيع الآلات الزراعية، إلى جانب مقدرتها على تحسين الأصناف الزراعية، وكان لها تجربة سابقة باستثمار أراض زراعية في أنغولا لزيادة إنتاجها الزراعي، وهنا يمكن الاستفادة من هذه التجربة ولكن بشروط سورية سيادية، وعبر اتفاقيات وبروتوكولات تعاون تحفظ حقوق الطرفين، بحيث نستقطب الصينيين للاستثمار الزراعي في سورية، ليس بهدف تحسين مستوى الإنتاج لدينا فحسب، بل لفتح سوق جديدة لتصريف ما تنتجه أراضينا من جهة، وإيجاد فرص عمل من جهة ثالثة، وتوطين تكنولوجيا زراعية من جهة ثالثة، والأهم من ذلك هو فتح شراكة زراعية إستراتيجية مع دولة كبرى تسعى لأن تكون أحد أقطاب العالم، ولعل مؤتمر رجال الأعمال العرب والصينيين العاشر الذي استضافته السعودية مؤخراً، وشارك فيه رجال أعمال سوريين، وتمخض عنه توقيع اتفاقيات استثمار بقيمة 10 مليارات دولار، يعدّ فرصة مهمة لإعادة ترتيب أوراقنا مع الصين وعدد من الدول المشاركة فيه.
تجارب ناجحة
إذ ما توسعنا بالحديث عن الاستثمار الزراعي من خلال الشراكة مع الصين أو غيرها من الدول -نظراً لتصدره قطاعاتنا الاقتصادية الوطنية- فسنجد أن هذا الأمر يحتاج إلى شركات وطنية خاصة ذات استقلال مالي وإداري، وإلا فإن مصيره الفشل، فمثلاً سبب نجاح تجربة السعودية باستثمار أراض في أثيوبيا ذات الموارد المائية الكبيرة والفقر المدقع، وذلك بهدف زراعة القمح، وكذلك الأمر في السودان، يعود لوجود شركات متخصصة في هذا المجال، وهنا يشير أحد المفاصل الحكومية فضل عدم ذكر اسمه أن هناك عديد الدول ومنها الصين وماليزيا لديها خبرات وتجارب لا يستهان في المجال الزراعي، مشيراً إلى انبهار السوريين خلال سنوات ما قبل الأزمة بالأوروبيين ومنتجاتهم، وما نتج عن ذلك من قناعة راسخة لدينا بأن أوروبا هي الأساس في كل شيء، ما أدى إلى الغفلة عن التعامل مع كثير من الدول، فالروس مثلاً لديهم صناعات زراعية جيدة لكنها غير مجدية بنظر كثير من المزارعين، أما ماليزيا فلديها خبرات هائلة في مجال الصناعات الغذائية يجب الاستفادة منها لتطوير صناعاتنا، وانتقد مصدرنا القانون 24 الذي حصر استيراد مواد المكافحة الزراعية من خمس شركات أوروبية فقط، منوهاَ إلى أنه سُمح جراء الأزمة الاستيراد من الهند!
واعتبر أنه من الخطأ أن يكون التعامل الاقتصادي مع الدول مجرد تكتيك آني، فالأصح أن يكون إستراتيجي، مؤكداً أن التوجه شرقاً لابد وأن يكون بآليات جديدة مختلفة عن السابقة، وذلك عبر شركات ومؤسسات وجمعيات وطنية تعمل ضمن منظومة اقتصادية مدروسة، خاصة في المجال الزراعي واستثمار الأراضي، والاستفادة من هذه الدول بموضوع التكنولوجيا والتجهيزات والمستلزمات الزراعية، شريطة أن تكون معايير هذه الشراكة وفق السيادة المطلقة للدولة، وألا تكون أسيرة لأي جهة كانت، مشيراً إلى فشل تجربتنا باستثمار أراض زراعية في السودان، وذلك بسبب غياب العمل المؤسساتي المنظم.
أهم عقبة
وفيما يخص استقطاب الشركاء الجدد للاستثمار الزراعي في سورية والاستفادة من خبراتهم لتطوير بنيتنا الزراعية بيّن أن أهم عقبة في هذا المجال تتمثل بعدم وجود حيازات زراعية كبيرة تستوعب هذا النوع من الاستثمار فحيازاتنا صغيرة بالمجمل، و99% منها قطاع خاص، أي أن العمل الفردي هو المسيطر على قطاع الزراعة وليس المؤسساتي المنظم.
وأضاف أن أهم عامل لاكتمال نجاح الزراعة في سورية هو التسويق، الذي لا زال تقليدياً وبدائياً بامتياز، فهو يشكل ما نسبته 80% من النشاط الزراعي في أية دولة من دول العالم، موضحاً أنه لدينا وفرة بالإنتاج وبنفس الوقت لدينا أزمة تسويق، فنحن لا زلنا ننتج للاستهلاك المحلي وليس للتصدير والاستهلاك الخارجي، بمعنى أن المنتِج المحلي لدينا لا يراعي أذواق المستهلكين في الخارج، فإنتاج زيت الزيتون لدينا -على سبيل المثال – يحتوي على نسبة عالية من الأسيد، ويعبأ بعبوات تقليدية لا تتناسب مع متطلبات الاستهلاك الخارجي.
تقتضي هذه المرحلة بالذات حشد كل الإمكانيات لإقامة علاقات تعاون إستراتيجي مع الدول المرشحة كبديل عن أوروبا، وفق شروط تلزم جميع الشركاء باستيعاب منتجاتنا الزراعية، وعلى جهاتنا الحكومية المعنية أن تستفيد من أخطاء الماضي بحيث تعتمد مبدأ التعامل بالمثل، وألا تدخر جهداً لترسيخ الصادرات السورية كمكون لا يمكن للشركاء الاستغناء عنه، وذلك من خلال الاهتمام البالغ بتلبية حاجات أسواقهم وفق المواصفات والمعايير المطلوبة من قبلهم، لنصل إلى مرحلة التفرد بتغذية هذه الأسواق دون غيرنا، مع الإشارة إلى أن سورية منافس قوي بكثير من المنتجات الزراعية الخاصة مثل حبة البركة والتوت الشامي وكذلك الكرز حيث أنه منتج منافس في كثير من دول العالم.