خيارات أصحاب الأموال تحت المجهر
عبد اللطيف عباس شعبان
إن ذوي السيولة النقدية القليلة المجمع على تسميتهم بالأسر الفقيرة أو أسر الدخل المحدود، منصرفون بل وملزمون بأغلبهم لإنفاق الجزء الأكبر من نقودهم وربما جميعها على مستلزماتهم الاستهلاكية، بما في ذلك التي أغلبها مستورد وغير ضروري، فلا زالت القهوة والمتة والشاي والتبغ والأركيلة والمشروبات الغازية والروحية والمحارم، وسلع أخرى، كانت تعتبر من الكماليات، تستهلك يومياً في بيوت أغلب الأسر من هذه الشريحة، كما أن لدى شريحة غير قليلة من هذه الأسر إنفاقاً على الساعات الخصوصية التعليمية لأبنائهم، وبالتالي يكاد يندر الادخار والاستثمار في هذا الوسط المجتمعي، بل إن بعضهم استهلك ما كان لديه من مدخرات نقدية سابقة، والبعض الآخر – ولغاية الاستهلاك – لجأ لبيع بعض ما يملك من عقارات أو غير ذلك، ولم يعد بمقدور الكثير من الأسر التحضير لتأسيس مسكن أو منشأة لأبنائهم، كما كان معتاداً قبل سنوات، يوم كانت عشرات ورشات البناء تنهض سنوياً في كثير من القرى، ولكن ذلك يكاد يكون معدوماً هذه الأيام أو يقتصر على ورشة أو ورشتين في العام وأقرب ما يكون ذلك إكمالاً أو ترميماً.
أما ذوو الشريحة الميسورة التي ما زال من الجائز تسميتها بالطبقة الوسطى، التي تملك سيولة نقدية بالملايين، مثابرة على أن تتمتع بالترفُّه والتنعُّم بها، ولا زالت قيد النزعة الاستهلاكية التي كانت عليها قبل سنوات، وتعيش بعض أسرها حالات استهلاكية فيها شيء من البذخ، والقليل الذي تدخره وتستثمره محصور ببعض الإيداعات المصرفية لِأجَلْ، يرافقها إحداث بعض منشآت تجارية وخدمية تكاد تخلو من الإنتاج السلعي، فالمنشآت التجارية والخدمية في ازدياد متتابع، ومنشآت خدمة صيانة أجهزة الخليوي مثال حيّ على ذلك، أما الملفت للانتباه فتلك الشريحة الموجودة بقوة على الساحة الاقتصادية، والتي يملك أفرادها أموالاً بمئات الملايين من الليرات بل والمليارات وعشراتها لبعضهم الآخر، ما يجعل من المستوجب والمفترض أن يستثمروا أموالهم بمشاريع إنتاجية تنهض بالواقع الاقتصادي للبلاد، فقلة هذه المشاريع تسبّبت بارتفاع متتابع لأسعار مستلزمات ومنتجات المشاريع القائمة، إلا أن واقع الحال يظهر أن أغلب المنضوين في هذه الشريحة، ينأون بأنفسهم عن استثمار أموالهم في تأسيس مشاريع اقتصادية مهمة ذات إنتاج سلعي، تلزم مفرداته الأسرة السورية كل يوم، بل إن معظم أفراد هذه الشريحة متجهون للمشاريع الخدمية، مطاعم وفنادق وبناء أبنية تجارية وأبراج سكنية وشراء عقارات زراعية أو لغاية البناء، وتجميدها دون استثمارها، رغم وجود الكثير المتراكم منها، والمجمد منذ سنوات على الهيكل أو بنصف إكساء، وبعضهم يستثمر أمواله في المزيد من الاستيراد المتنوع المواد من الخارج، ويكدسها في مستودعات، عدا عن هجوم ملحوظ من بعض أفراد هذه الشريحة لشراء الدولار والذهب، ما ساهم في ارتفاع متتابع لهما.
إن محدودية إقبال أفراد هذه الشريحة المليئة مالياً باتجاه استثمار أموالها في مشاريع إنتاجية سلعية، رغم تسهيلات كبيرة شجَّع لها قانون الاستثمار الأخير، بالتوازي مع النسبة القليلة من الميزانية العامة المخصّصة للمشاريع الإنتاجية، سبب تراجعاً كبيراً متتالياً في استثمار المشاريع الإنتاجية القائمة في القطاعين العام والخاص، كما هو حال قطاع الثروة الحيوانية وخاصة تربية الدواجن، فارتفعت أسعار مستلزمات ومنتجات هذا القطاع ارتفاعاً كبيراً وما زال متتابعاً، وقطاعات إنتاجية أخرى على غرار ذلك ما كان لهذا الاستثمار المطلوب أن يغيب بهذه الشاكلة، لو كان لدى الحكومة الحالية وسابقاتها سياسة اقتصادية مالية تنموية تحسن توجيه السيولة النقدية المتوفرة باتجاه استثمارات ذات نفع وطني عام، فكثيرون من أصحاب الأموال يرغبون باستثمار أموالهم في مشاريع انتاجية، وبعضهم بدأ في ذلك تفكيراً، ولكنه اصطدم تدبيراً بكثير من المنغصات والشروط والمتطلبات والتشريعات التي أثبطت عزيمته، فبعضهم تراجع من البداية والبعض اضطر للتراجع بعد أن تحمل نفقات مالية تأسيسية لمراحل معينة، فالسياسة الحكومية – المالية الاقتصادية – التي توجّه رأس المال العام والخاص باتجاه المزيد من مشاريع الإنتاج السلعي مطلب وطن ومواطن، فهل تستيقظ الحكومة وتعالج واقع الحال، وليس هذا بمحال؟.
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية