الحوار العربي- الإيراني رؤى وآفاق جديدة
سمر سامي السمارة
اكتسب مؤتمر الحوار العربي الإيراني غير الرسمي، الذي عُقد مؤخراً، أهمية خاصة لأنه انعقد بعد فترة وجيزة من الأحداث التي أظهرت أن العالم قد يكون مستعداً لفتح صفحة جديدة في تاريخه. لقد أدركت إيران والسعودية أهمية إنشاء عالم متعدّد الأقطاب، حيث بدأ البلدان بالعمل فعلياً على تنفيذ هذه الرؤية، والدعوة بقوة إلى الحدّ من الدور السلبي للولايات المتحدة في منطقة الخليج بأكملها.
ضمّ المشاركون الإيرانيون نخبة من السياسيين والباحثين، وممثلين رفيعي المستوى للجامعات والمؤسسات شبه الرسمية، حيث قدموا وجهات نظر مختلفة بشأن سياسة طهران الإقليمية. وعبّرت أغلبية المشاركين عن رغبة جديدة في التفاعل والمصالحة والتعاون. ولأول مرة اتفق الطرفان على فكرة إجراء مفاوضات مع مجلس التعاون الخليجي بشأن البرنامج النووي الإيراني، كما أظهرا مرونة في بعض القضايا الإقليمية، والتي كانت أكثر وضوحاً خلال المفاوضات على هامش الحدث الرئيسي.
جدير بالذكر، أن علاقات الدول العربية مع إيران كانت معقدة في عهد محمد رضا، آخر شاه إيراني، وكذلك بعد الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979. ومنذ ذلك الحين، اهتمّت طهران بشكل متزايد بسياستها الخارجية، وركزت على دول الجوار، وخاصة الدول العربي.
أدّت العقوبات القاسية غير المبررة التي مارستها الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى فرض المزيد من الضغط على الشعب الإيراني، لكن طهران تغلبت بنجاح على كافة العقبات التي وضعها الغرب في طريقها، وذلك بمساعدة العديد من الدول المستقلة، وخاصةً روسيا والصين.
وللإشارة، فقد جاءت قمة جامعة الدول العربية، التي عقدت في جدة، في 18 أيار الماضي، بمبادرة خفض التصعيد في المنطقة، وتجاوز مرحلة الخلافات بين شعوبها. ولهذا الغرض، أعادت النظر في مواقفها المتعلقة بإيران، من خلال محاولة نزع فتيل بعض الأزمات الإقليمية، والتشجيع على الحوار والمصالحة في المنطقة.
وفي آذار الماضي، اتفقت السعودية وإيران من خلال مفاوضات قادتها الصين، على استئناف العلاقات الدبلوماسية. وقد مهدت هذه الانفراجة الدبلوماسية الطريق لاتخاذ خطوات إيجابية وتوفيقية، التي تم تبنيها في قمة جامعة الدول العربية. وفي الواقع، تجاوز البلدان مرحلة استئناف العلاقات الدبلوماسية، مشددين عبر بيان مشترك صدر في بكين على “التزامهما بسيادة الدولتين وعدم التدخل في شؤونهما الداخلية”.
كانت موافقة الطرفين على العهد بهذا الالتزام بمثابة انفراجة أخرى في إقامة علاقات ودية بين الدول الواقعة على ضفتي الخليج، حيث يتوق الطرفان بشكل كبير للعودة إلى الحقبة التي عاشت خلالها المنطقة في سلام وأمن واستقرار.
فعلى مدار قرون، عاشت المجموعات العرقية والأسر نفسها في منطقة الخليج، وحافظت على روابط ثقافية واقتصادية مزدهرة، حيث تتقاسم هذه الدول الحيز الجغرافي نفسه، وتتشارك المصالح الاقتصادية والإستراتيجية المهمة بالقدر نفسه، الأمر الذي يلزمها تسوية وتجاوز خلافاتها.
وفيما يتعلق بالقضايا التي لا تزال محل نزاع، يرى مراقبون أنه لابد من إيجاد السبل لحلها سياسياً وسلمياً وفقاً للمعايير والأعراف الدولية للعلاقات بين الدول، والتغلب على العدوانية المتمحورة في الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة والتي تقف عائقاً في وجه هذه المهمة.
ووفقاً للمحللين والسياسيين الغربيين الذين لا يدخرون جهداً لتحقيق مصالحهم الخاصة والترويج لوجهات نظرهم، يُزعم هؤلاء أن إيران تريد “ترسيخ هيمنتها” على المنطقة.
لكن، واقع الحال يُظهر العكس، حيث تُجاهر إيران بشكل فعلي بمناهضتها لأي وجود أجنبي في المجال الأمني، وذلك لإنهاء الاستعمار والهيمنة الأجنبية، كما تعارض بشدة الأعمال العدوانية للولايات المتحدة في الخليج وما حوله، معتبرةً إياها استمراراً للسياسة الأوروبية الاستعمارية، مذكرة دائماً بالاعتداءات الأمريكية على العراق وسورية وأفغانستان، هذه البلدان التي تحاول جاهدة التعافي بشكل كامل من آثار الاعتداءات المستمرة على أمنها واستقرارها والتأسيس لحياة طبيعية.
يرى مراقبون، أنه من الضروري إرساء أرضية صلبة لنجاح المفاوضات الملموسة المتعلقة بالأمور الحاسمة، وذلك من خلال الاتفاق على القواعد التي تحكم العلاقات بين دول المنطقة، وعلى تدابير بناء الثقة من أجل الحفاظ على خفض التصعيد، مؤكدين أنه يمكن مناقشة هذه القضايا عبر خمسة مسارات مترابطة ومتشابكة، حيث يشمل المسار السياسي والدبلوماسي مناقشة القضايا الإقليمية بهدف تعزيز الحلول السياسية وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، وتحقيق أهداف سياسية دون استخدام القوة أو التهديد، كما يغطي انتشار الأسلحة النووية والصواريخ والطائرات بدون طيار، وخاصةً بين الأطراف غير الحكومية.
كما يغطي المسار الأمني مكافحة الإرهاب، والمجموعات المتطرفة، والجماعات المسلحة الأخرى العاملة خارج القانون، وهنا لابد لنا من التذكير بأن، هذه المجموعات غير الشرعية هي بالضبط المجموعات التي توفر لها الولايات المتحدة الأسلحة والدعم في معاركها ضد الحكومات الرسمية.
ويستكشف المسار الاقتصادي فرص التجارة والاستثمار، بما في ذلك في مجال الطاقة المتجدّدة، بينما يأخذ مسار التنمية المستدامة بعين الاعتبار إمكانية التعاون في الجهود المبذولة لعكس تغير المناخ، وإعادة تأهيل البيئة البحرية في الخليج. أخيراً، يتضمن المسار الثقافي مناقشات لإحياء التبادل الثقافي العربي الإيراني الغني تاريخياً.
تجدر الإشارة إلى أن روسيا ودول “البريكس” على وجه التحديد لا تشجع هذه السياسة فحسب، بل تقدم أيضاً كل دعم ممكن للدول العربية وإيران، وخير مثال على ذلك هو نتائج اجتماع وزراء الخارجية الذي اختتم مؤخراً في كيب تاون جنوب إفريقيا، والذي يهدف للتحضير لقمة رؤساء الدول في شهر آب القادم، حيث حضر 20 وزير خارجية دول غير أعضاء “البريكس”، بما في ذلك وزيرا خارجية إيران، حسين أمير عبد اللهيان، وفيصل بن فرحان بن عبد الله، اللذين أجريا محادثات مثمرة على هامش اجتماع “أصدقاء البريكس”.
كما عيّنت إيران والسعودية سفيرين لدى الرياض وطهران، والتقى عبد اللهيان وبن فرحان للمرة الأولى في بكين في 6 نيسان الماضي لمناقشة التفاصيل الرئيسية لاستئناف العلاقات بعد اتفاق تاريخي وقعه رئيسا الأجهزة الأمنية الإيرانية والسعودية. وقال بن فرحان خلال الاجتماع في كيب تاون إن البلدين قد تجاوزا بسرعة مرحلة تعيين السفراء، ويتجهان نحو مرحلة جديدة تخدم مصالح الشعبين والمنطقة بأسرها. وبحسب الأمير فيصل بن فرحان بن عبد الله، فإن السعودية حريصة على تطوير التعاون المستقبلي مع مجموعة “بريكس” لتحقيق الازدهار الجماعي.
من الواضح أن النجاحات التي تحققت على مدى العقود الماضية، في مجالات الاقتصاد والتنمية الاجتماعية والتعليم والثقافة والفن، يمكن أن تصبح أكثر أهمية وشمولية واستدامة بمجرد أن تصبح إيران وجيرانها في المنطقة العربية قادرين على استعادة الثقة اللازمة وروح التعاون والتكامل.