توفيق أحمد وجمال الجيش.. بين الشعر والإذاعة
أمينة عباس
حرّضت القواسم المشتركة بين الشاعرين والإعلاميين توفيق أحمد وجمال الجيش فرعَ دمشق لاتحاد الكتّاب العرب ليكونا معاً في لقاء ضمن فعالية أقامها مؤخراً حملت عنوان “شعر وحوار”، وكانت فرصة للحديث عن صداقتهما وبدايتهما الإعلامية والشعرية، وقد جمعتهما أمكنة مختلفة، أهمها الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون. وبيَّن د. إبراهيم زعرور رئيس فرع دمشق لاتحاد الكتّاب العرب أن تجربة الشاعرين الإعلاميين غنية في الشعر والعمل الإعلامي، والقواسم المشتركة التي تجمعهما كثيرة، أهمها الانحياز للشأن الثقافي.
علاقة وجودية مع الشعر
وبعيداً عن الحوار التقليدي، تداعت الذكريات وغابت الحدود بينهما، فلم يُعرف من هو الشاعر ومن هو الإعلامي، حيث غرّدا سوية في ماضٍ جمعهما، وبيَّنا أنهما كتبا الشعر في سن مبكرة، واستطاعا من خلال المهرجانات الشعرية الجامعية أن يرسّخا اسميهما بين الأسماء الشعرية المهمّة حينها، وقد كانا ضمن مجموعة من الشعراء شكّلت ظاهرة شعرية أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات حين عملا على تحرير القصيدة من العلاقة المباشرة بالأيديولوجيا والإشكاليات الكبرى التي يعاني منها الشعر، وكان شغلهما الشاغل كتابة نص جيد بعيداً عن أية اعتبارات أخرى.
ونوّه جمال الجيش بأن عقد السبعينيات كان من أجمل العقود التي مرّت على التاريخ الشعري، حيث كان الجميع يتحلّق حوله بعيداً عن التوجهات والانتماءات، ليكون الهدف هو كتابة الشعر في حقبة تميّزت بقدر كبير من الإبداع والطموح، وقد كانت علاقة الجيش مع الشعر وجودية وما كان يرى نفسه إلا شاعراً، إلا أن الأحداث التي وقعت في أوائل الثمانينيات أجهضت الحراك الثقافي واستدعت حالة من الانطفاء عنده فاتجه إلى الإذاعة والتلفزيون للعمل، وحين سُئل إن كان يريد العمل في التلفزيون أو في الإذاعة اختار الإذاعة، وحينها اكتشف الجيش الفقر الشديد في البرامج الثقافية، وخاصةً ما يتعلق بالبرامج الشعرية، فشعر بمسؤولية في إنجاز برامج تُعنى بالشعر، موضحاً أن الشعر كان السبب في تعرّف الجيش على توفيق أحمد الذي قدم إلى الإذاعة في العام 1986، وكان الجيش قد قطع شوطاً جيداً في عمله، وكان أهم ما تعلمه في العمل الإذاعي والتلفزيوني هو الانضباط رغم أنه كان يعيش حياته كشاعر بشكل فوضوي، مشيراً إلى أن الإذاعة كانت البيت الكبير بالنسبة لجيله، ومع ظهور المحطات الفضائية أدرك الجميع أنها غير قادرة على منافستها وكان الأمل أن تكون المنافسة بينها وبين الإذاعات فقط.
وبيّن الجيش أنه كان من رواد الإعلام التفاعلي ومن الجيل الذي ترك الورق وأمسك الميكروفون ليتحدث عن الناس عبر البرامج الحية والمباشرة معهم، معبّراً عن أسفه لحال الإعلام اليوم والذي يعاني من ضعف الإمكانيات، وهو لا يرى أن ذلك مبرر لعدم تقديم ما هو مناسب إن أُحسن اختيار الكوادر المناسبة، موضحاً أن الإذاعة سابقاً كانت تستقطب الكوادر المؤهلة والجاهزة، أما اليوم فيأتي إليها من لا يملك ثقافة ولا يريد أن يتعلّم وعينه على التلفزيون.
مدرسة كبيرة
واتفق توفيق أحمد مع ما قاله الجيش، مؤكداً أن الارتباك كان غائباً عن جيلهم لأنه جيل بُنيَ بشكل سليم وكان صاحب مسؤولية كبيرة، وقد كان للإذاعة تقاليدها الصارمة التي لا تحيد عنها، بحيث كان كلّ منهم يعرف واجبه ولا يتأخر عنه، مشيراً إلى أنه تعيّن في إذاعة صوت الشعب عام 1986 ثم انتقل إلى إذاعة دمشق، وكان الجيش قد سبقه إلى الإذاعة بعشر سنوات، لذلك عندما شاهده في الإذاعة لأول مرة فرح كثيراً لأنه يلتقي باسم مهمّ إلى جانب أسماء مهمة أخرى كعزيزة إدلبي ودعد الدجاني وسفيان جبر وإبراهيم القاسم وغيرهم من الأسماء الكثيرة والكبيرة.
وبين أحمد أنه دخل إلى عالم الإذاعة وكان قد قرأ 800 كتاب، وكان يعتقد أن الإعلام ناقل كبير للثقافة، وعندما دخله وجده إعلاماً عاماً يعمل في الخدمات والسياسة وفي كل المجالات، وقضى سبع سنوات في العمل الإذاعي دون أن يحصل على أي إجازة رغبةً منه في صقل إمكانياته واكتساب الخبرة، وقدم كلّ أنواع البرامج الإذاعية، متوقفاً عند برنامجه الشعري “أحلى الكلام” الذي بدأ بتقديمه منذ العام 2007 وما زال مستمراً حتى الآن، ويقدّم فيه مختارات من الشعر العربي والعالمي بصوته.
ورأى أحمد أن قراءة الشعر ملَكة ودربة وميول، ولا يستطيع أي شاعر أو حامل للشهادة أن يقرأه بشكل مميز إلا ممن يجيدون اللغة إجادة تامة، منوهاً بأن إذاعة دمشق والإذاعات السورية الأخرى ربّت عدداً كبيراً من الإعلاميين والمخرجين والفنيين والفنانين، وعندما انفتح العالم على الإعلام كانوا جزءاً منه ونهض العمل فيه على أكتافهم، لأن إذاعتنا كانت مدرسة كبيرة ومحطة أساسية يجب أن يتوقف عندها أي إعلامي لأنها تؤهله تأهيلاً حقيقياً، موضحاً أنه يكتب الشعر بكل أشكاله، وهو لم يحدّد حتى اليوم خارطته الشعرية، لكنه يميل لكتابة قصيدة بسيطة لا غموض فيها ولا إبهام، معترفاً أن الشاعر لديه هو الذي خدم الإعلامي لأنه حين التحق بالإعلام في عمر خمسة وعشرين عاماً كان قد قرأ مئات الكتب والمدونات في جميع صنوف المعرفة والإبداع، ونشر القصائد والمقالات في مناحي الثقافة وشؤون الحياة، لذلك مازال منحازاً إلى الشعر.
وختم توفيق أحمد كلامه بالحديث عن جمال الجيش وكيف أنه كان ومازال حالة تنويرية في مجتمع محافظ، واستطاع أن يكون إعلامياً وثورياً برسالته المعرفية والأخلاقية وهو الأب الروحي لإذاعات FM.
قصائد مخطوطة
عمل الشاعر صالح هواري مع الجيش وأحمد في الإذاعة والتلفزيون، وواكبهما لسنوات عديدة، وبيّن في مداخلة له أن جمال الجيش يكتب القصيدة لكنه لا يقرأها على أحد إلا إذا طُلِب منه ذلك، لذلك بقيت قصائده مخطوطات غير مطبوعة، أما توفيق أحمد فقد رأى أنه شاعر مبدع نضجت تجربته مبكراً ولا يميل في قصائده للانزياحات اللغوية ولا تغريه الصورة المغرقة بالرمزية، بل يكتب صورة شعرية بانزياحاتها الدلالية والصورية، وهو الذي لم يقف عند نمطٍ شعريّ واحد لينهل منه لثقته أن الشكل التعبيري للقصيدة ليس مهماً بقدر ما هو في جوهرها ومضمونها.
تضمّنت الندوة قراءات شعرية لتوفيق أحمد وجمال الجيش واختار كلّ واحد منهما مجموعة من القصائد التي كتبها في مراحل عمرية مختلفة.