دراساتصحيفة البعث

عقوبات أيقظت العملاق النائم

هيفاء علي

تشكل العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا، في أعقاب العملية العسكرية في أوكرانيا، أكثر سوء تقدير في التاريخ الغربي الحديث، وفق ما أشارت المواقع الامريكية المستقلة، اذ لم تؤد العقوبات إلى ركوع الاقتصاد الروسي، كما كان مأمولاً من قبل الغرب، بل على العكس من ذلك، فإن الاقتصادات الغربية هي التي اهتزت، وتوقف نموها الاقتصادي عملياً، ويعاني الكثير منها في نفس الوقت من ارتفاع معدلات التضخم ونقص الطاقة.

وفي الوقت عينه، فإن روسيا لم تنج فحسب، بل إن اقتصادها يزدهر ويكتسب المزيد من القوة والمكانة في جميع أنحاء آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية أكثر من أي وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، سينمو الاقتصاد الروسي هذا العام بشكل أسرع من نمو اقتصاد ألمانيا أو المملكة المتحدة. وفي العام المقبل، سيكون نموها أسرع أيضاً من نمو الولايات المتحدة واليابان وإيطاليا، وجزء كبير من بقية الغرب، وسوف يتجاوز نمو نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مثيله في الاقتصادات المتقدمة بأكملها، وسيحقق أدنى نسبة من ديون الناتج المحلي الإجمالي بين دول مجموعة العشرين.

زيادة على ذلك، معدل البطالة في روسيا 3.5٪ هو الأدنى منذ فترة الاتحاد السوفييتي، بينما استقطب الأداء الاقتصادي لروسيا مؤخراً ثقة القطاع الخاص، وهو أمر مميز للغاية بالنظر إلى أن روسيا تواجه في الوقت نفسه حرباً بالوكالة مكلفة تخوضها جيوش وأسلحة الغرب في أوكرانيا. كما تمكنت روسيا من زيادة معدل إنتاجها العسكري بشكل فعال.

من خلال التركيز على إمداد أوكرانيا بمختلف أنواع السلاح، أضعفت أمريكا قدرتها على تحقيق أهداف أخرى، مثل ردع التوسع الصيني والحفاظ على قدرة الاستجابة في بلد آخر. وعليه، فإن القوة العسكرية لروسيا هي أكثر من جيدة، خاصةً في أعقاب التحالف الوثيق مع الجيش الصيني مؤخراً، حيث أدى ظهور “المحور الروسي الصيني”، والإدراك الواسع النطاق لانحدار الغرب إلى إقناع الجيوش الأخرى بالوقوف إلى جانب المنتصر. في أيلول الماضي، انضمت الهند ولاوس ومنغوليا ونيكاراغوا، والعديد من الدول السوفيتية السابقة إلى روسيا والصين في مناورات حربية في بحر اليابان والشرق الأقصى الروسي. وفي شباط الفائت، استضافت جنوب إفريقيا روسيا والصين لمدة عشرة أيام مناورات بحرية مشتركة.

حتى موقف روسيا الدبلوماسي آخذ في الارتفاع أيضاً، وبينما استطاعت الولايات المتحدة الضغط على الدول الغربية لمعاقبة روسيا عن طريق الإكراه، فقد كان لسلطتها تأثير معاكس في بلدان أخرى. ففي آسيا، عززت الصين والهند علاقاتهما مع روسيا بشكل كبير، وفي أمريكا الجنوبية عززت الحكومة الاشتراكية الجديدة للبرازيل التي تشكل أكبر اقتصاد في القارة، علاقاتها مع روسيا. وفي الشرق الأوسط، يتنامى انعدام الثقة بالولايات المتحدة، حيث تتمتع روسيا بعلاقات جيدة مع جميع الدول العربية والاقليمية. وفي إفريقيا، تعتبر روسيا الدولة الأوروبية الكبرى الوحيدة التي تخلت عن الاستعمار، حيث يتم الاحتفال بروسيا على نطاق واسع، على عكس القوى الاستعمارية السابقة مثل فرنسا، التي طردت قواتها مؤخراً من مالي وبوركينا فاسو، حين أكد الرئيس الفرنسي ماكرون أن عصر “فرنسا-افريقيا” ولى إلى غير رجعة.

وعليه، في الوقت الذي حاول فيه الغرب عزل روسيا، فقد تم الترحيب بروسيا من قبل معظم الدول الأخرى، كما يتضح من التحالفات الإقليمية التي تلعب فيها دوراً رائداً، مثل مجلس شنغهاي للتعاون بقيادة روسيا والصين، والذي يضم دولاً سوفيتية سابقة، والهند وباكستان، ودول البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا)، التي يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي ناتج مجموعة السبع. وقد أعربت حوالي 20 دولة عن اهتمامها بالانضمام إلى روسيا في هذه التحالفات الاقتصادية والأمنية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران ومصر وإندونيسيا والمكسيك.

وبينما كانت العقوبات الغربية، وهي الأشد على الإطلاق، تهدف إلى تعليم روسيا أن “العدوان لا يؤتي ثماره”، على حد تعبير ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف الناتو، فإن ضراوة العقوبات، وما ترتب عليها من إلغاء زيارة الفنانين والرياضيين الروس إلى الغرب، وتوقع انتهاء الاتحاد الروسي من قبل النخب السياسية والعسكرية مثل القائد العام السابق للجيش الأمريكي في أوروبا، الجنرال بن هودغز، كل هذا لم يهز روسيا ولم يزعزعها، بل قادها إلى تعلم دروس مختلفة تماماً.