الجزائر وروسيا.. نحو أنموذج من العلاقات الدولية المتكافئة
“البعث الأسبوعية” – بشار محي الدين المحمد
رسمت الجزائر وروسيا ودول أفريقيا مؤخراً مثلثاً دولياً فريداً من التحالفات والشراكات المغايرة لما شهدته العلاقات الدولية عبر عقود من القطبية الأمريكية التي كانت تسود العالم وتعكّر صفو علاقاته وتعمي بصيرة حكوماته وشعوبه، حيث أصبحت الشعوب أكثر قوةً وتحدّياً بفعل المتغيّرات الدولية الحادة التي باتت تهدّد أمنها من جميع النواحي.
ووسط هذا المشهد اللافت، نجد أن الجزائر بوصفها أكبر بلد عربي وبوابة أوروبا إلى القارة السمراء ومصادر الطاقة الرخيصة الثمن والقريبة، قامت بإكمال أهميتها الجيواستراتيجية عبر الاحتفاظ بقوة وصوابية موقفها وحيادها إبان القضايا العالمية وخاصةً بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، حيث رفضت الانضمام للصف الغربي رغم محاولات التجييش والمطالبة بفرض العقوبات على روسيا وعزلها دولياً، وفي الوقت ذاته آثرت الجزائر التوازن في موضوع بيع حوامل الطاقة عندما هرعت الدول الأوروبية إليها كبديل عن مصادر الطاقة الروسية بعد أن حرمت تلك الدول نفسها من تلك المصادر عمداً وبقرار من الحلف الأنغلوساكسوني الذي لا يعبأ لحياة ورفاهية الشعوب بما فيها شعوب الغرب عندما فرض العقوبات الأحادية على موسكو للضغط عليها لإيقاف عمليتها الخاصة في أوكرانيا.
لقد أجرت الجزائر العديد من الخطوات لتمتين العلاقة العسكرية مع روسيا، ومن أبرزها مناورات عسكرية وتدريبات بحرية مشتركة بينها وبين روسيا والصين غربي المتوسط، حيث باتت مثل هذه التحرّكات تشكّل ما يشبه قاعدة عسكرية موحدة رافضة لأطماع الغرب في هذه المنطقة، يُضاف إليها الشراكة الوثيقة بين روسيا والجزائر في نقل تكنولوجيا السلاح، وعودة الجزائر كوجهة للسلاح الروسي بعد تراجع دام سنوات في هذا المضمار بعد أن تمّت تصفية شوائب العلاقة وعوامل الجفاء، حيث حملت زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسائل متعدّدة المضامين، ففي الزمان نلحظ مدى استجابة تبون لدعوة بوتين، في حين نرى على المقلب الآخر أن زيارته إلى فرنسا للقاء نظيره إيمانويل ماكرون تأجّلت عدّة مرات نتيجة عدم التوافق سواء من ماكرون نفسه، أم ممّن يسمّون “الماكينة الأوروبية” الرافضة للاعتراف بأخطاء الاستعمار الفرنسي وتاريخهم الأسود في الجزائر كشرط لفتح صفحة جديدة من التعاون بين باريس والجزائر، فضلاً عن توجّه الجزائر مؤخراً للعمل على تخفيض بيع الطاقة لفرنسا، وسحب رأس المال الجزائري من باريس نحو وجهات أخرى. من ناحية أخرى نجد أن هذه الزيارة تؤكد رغبة الجزائر في أن تكون مع أفريقيا متنفّساً لروسيا إبان الحصار الغربي المفروض عليها، إذ تتعدّى العلاقة الآن التعاون العسكري إلى المستويات الاقتصادية والسياسية، ومناقشة ملفات في الشرق الأوسط والساحل الأفريقي وجهود “أوبك بلاس” في كبح سيطرة الغرب على أسعار أسواق النفط وحتى الغاز، وجعل زمام قرار الطاقة العالمي بيد روسيا وحلفائها لا أمريكا وأدواتها، فمن يريد الضغط على روسيا عبر النفط والغاز سيصطدم بحلفائها وإرادتهم الصلبة في تحقيق مصالحهم ومصالح شعوبهم أولاً، وفي سياق آخر مثلت الجزائر اللاعب الرسمي الأبرز للمصالح الروسية وبوابة لدخولها إلى أفريقيا، وإيجاد بدائل مساعدة لروسيا عن نظام سويفت المالي حيث سيتم افتتاح بنوك روسية في الجزائر كخطوة أولى.
أما على صعيد القارة الأفريقية فإن الجزائر ساهمت في لعب دور قيادي بارز كأكبر بلد أفريقي عبر السعي لتوحيد الرؤى الأفريقية وتصويب بوصلة تلك الدول بعد أن كانت تسير دون بوصلة لسياساتها الخارجية التي كانت تدار من الغرب، وخاصة فرنسا، لعقود طويلة، أو كانت تنفّذ أجندات الشركات الغربية والصهيونية التي تنهب خيراتها وتخترق بنيتها السياسية والاجتماعية لحرمانها من التنمية، وظهر بشكل واضح مدى التجانس في الموقف الأفريقي حيال أبرز القضايا على مستوى العالم أو ضمن القارة والشرق الأوسط، والبند الأهم هو تأييد حقوق الشعب الفلسطيني وإسقاط “إسرائيل” من الأجندة الأفريقية، وما سبقه من إسقاط لفرنسا وألمانيا من المعادلة الأفريقية، كما نشهد الآن تحوّلاً في تلك الدول نحو التنمية ودخولاً للجزائر في العديد من قطاعاتها الاستثمارية، ولا سيما البنكية التي كانت تسيطر عليها تلك الشركات المأجورة العميلة، للتحوّل نحو أفريقيا جديدة، وعملت الجزائر أيضاً على تعزيز الشراكة الاستثمارية بين دول أفريقيا وجعلها متعدّدة المجالات زراعية وصناعية تجارية لتجاوز الخضات المالية التي تتعرّض لها تلك الدول نتيجة تقلبات الأسعار والعرض والطلب بصورة حادة في السوق العالمية للطاقة، فضلاً عن بناء المناطق الحرة وتأمين الأسواق المشتركة وتبادل التكنولوجيا ونقلها بين تلك الدول، وخاصة أن الجزائر تمتلك تجربة رائدة في الصناعات الإلكترونية، وقد ساهم تضافر جهود الجزائر مع دول أفريقيا في تنويع الشراكات سواء شرقاً أم غرباً مع جعل المصلحة الوطنية هي المحدّد الأول لخياراتها.
وفي شأنٍ مترتب على ما سبق، أظهرت الوساطة الأفريقية بين موسكو وكييف أن الدول الأفريقية لم تعُد بيدقاً في السياسة الدولية، بل لاعب أساسي ينطق بمصالح شعوبها التي تضرّرت نتيجة تداعيات الحرب، ويظهر المكانة المستقبلية للدول الأفريقية في صنع السياسة الدولية المتوازنة والكاسرة لسياسات الغرب الإمبريالية بعد توجيه تلك الدول عبر سلوكها ما يشبه رسالة إلى الغرب مفادها أن أفريقيا لن تكون طرفاً في أي حرب باردة يشنّها الغرب.
ربما يرجّح الكثير من المراقبين والخبراء تأجيل الحديث عن نشوء وولادة العالم الجديد وإسقاط التبعية للغرب وعملاته، ولكن ليس هذا هو الأمر الأهم الآن، بل إن ما يهمّ هو أننا أصبحنا أمام تصحيح تاريخي لمجرى العلاقات بين الدول على أساس المساواة والتعاون المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول صغيرة كانت أم كبيرة، فالجزائر أصرّت على أن تكون بوابة لروسيا إلى أفريقيا ورسمت خطوطاً متطوّرة للعلاقة وجعلتها ترتقي من المجال العسكري نحو مسار التنمية والاقتصاد، معتبرةً ذلك الحل الأمثل للإرهاب والهشاشة السياسية الأفريقية السائدة، كما أن دول القارة السمراء حضرت إلى موسكو وكييف للتفاوض من باب النطق بمصلحتها ومصلحة شعوبها التي عانت من آثار الحرب التي أشعلها “الناتو” في أوكرانيا بعد أن قالت كلمتها أمام الجميع في رفضها فرض العقوبات على روسيا، والشعب الأفريقي لا أنظمته السياسية رسم صوراً لافتة خلال مظاهراته ومسيراته التي طالبت روسيا بمؤازرته ضدّ الاستعمار الفرنسي والغربي بعد طول معاناة. فهل أفلح الغرب عبر تاريخه في صناعة علاقات دولية مشابهة؟ وهل سيتعلم من أخطائه الكارثية؟.