عندما تصبح بيئات العمل فاقدة للتحفيز المادي والمعنوي.. لا عجب أن تكثر طلبات الاستقالة وتزداد نسب التسرب المخيفة!
البعث الأسبوعية – غسان فطوم
كثرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة طلبات الاستقالة المبكرة للموظفين في المؤسسات الحكومية، يضاف لها تسرب الآلاف وتركهم للعمل من الموظفين المؤقتين والمثبتين والأسباب بلا شك عديدة، ولكن أهمها هو ضعف الرواتب والأجور في القطاع العام التي لم تعد تلبي متطلبات الحياة اليومية، في ظل الغلاء الفاحش للأسعار التي أحرقت جيوب ذوي الدخل المحدود دون أن نرى أي إجراء جدّي لإصلاحها!.
الزمن الجميل
في تسعينيات القرن الماضي وحتى نهاية العقد الأول من هذه الألفية كان الشباب يتوسطون المعارف وأصحاب النفوذ، وغالباً ما كان بعضهم يدفعون المال للفوز بوظيفة حكومية والتباهي بها، في ذاك الحين كانت أمور الحياة ميسرة، فالرواتب بحديها الأدنى والأعلى كانت تحقق حياة معيشية مريحة إلى حد مقبول قياساً بالأسعار، ووصل الأمر خلال أعوام 2008- 2010 إلى إمكانية أي أسرة فيها موظفين اثنين من شراء سيارة بالتقسيط المريح، حيث ساهمت الشروط المريحة للمصارف الحكومية والبنوك الخاصة بمنح قروض ميسّرة، مكنت الكثير من الأسر من شراء سيارات وبيوتاً بمشروع السكن الشبابي أو في جمعيات خاصة، حتى الإيجارات كانت مريحة للجميع ولا مشكلة فيها، ففي عام 1995 كان سعر أجرة غرفة ومنافعها في مناطق المخالفات المحيطة بدمشق لا يتجاوز 1500 ليرة، أما اليوم فارتفع السعر لـ 100 ألف للغرفة الواحدة، والبيت المؤلف من غرفتين قد يزيد عن 200 ألف حسب موقعه، أما في مناطق التنظيم فحدث ولا حرج، وكان سعر غرام الذهب عام 1995 عيار 21 ( 452.63 ل.س) وعيار18 (387.97 ل.س)، أما اليوم فهو بحدود الـ 500 ألف ليرة وقابل للزيادة!.
تسرب وهروب!
ولو عدنا /12/ عاماً للوراء نجد أنه مع بداية الأحداث في سورية في عام 2011 بدأنا نشهد حركة واضحة في هجرة الشباب من أصحاب الكفاءات والخبرات، فالبداية كانت بآلاف الأشخاص، ثم عشرات الآلاف، فمئات الآلاف، والملاحظ أن أغلب من هاجروا هم من طلبة الجامعة وحتى الخريجين فيها، والبقية من موظفي الدولة وحتى القطاع الخاص، وآخرون ممن لا عمل لهم.
هؤلاء المهاجرون توصلوا لقناعة أن أحلامهم لن تتحقق من خلال وظيفة حكومية لا يشتري أجرها الشهري 10 كغ زيت زيتون، أو كيلو لحم بعجين (صفيحة)، لذا ليس بغريب أن يضعوا أحلامهم بحقيبة سفر ويهاجرون بحثاً عن فسحة أمل لعلهم ينقذوا ما تبقى لهم من أحلام بعثرتها الحرب، بل أخطاء سياسات التشغيل والفشل في استثمار الموارد البشرية والمحافظة عليها!.
آخر الأرقام
من قرأ التقرير الأخير الصادر عن اتحاد العمال بخصوص القوى العاملة سيجد ارتفاعاً ملحوظاً في أرقام الموظفين الذين تقدموا باستقالاتهم، واستقالوا خلال النصف الأول من هذا العام، إذ بلغ الرقم بحدود الـ 1700 موظفاً يعملون في دوائر حكومية في كل من السويداء والقنيطرة واللاذقية، ولا شك أن هناك أضعافهم يفكرون اليوم بالاستقالة، أو التسرب من العمل، وفق ما ذكره التقرير، وبنتيجة ذلك أصدرت الجهات التنفيذية تعاميم حددت بموجبها شروط قبول الاستقالة، وفرضت عقوبات بالسجن والغرامة على من يترك عمله، وهذه الجزئية انتقدها رجال القانون على اعتبار أن الدستور كفل حق العمل للمواطن وحقه في تقديم الاستقالة!.
الحالة تعبانة!
ضمن هذا الواقع استغرب عدد من الشباب سعي الحكومة إلى رفع سن التقاعد ومنع الاستقالات، وبرأيهم أن ذلك لن يكون نافعاً، طالما الأجر الشهري للوظيفة الحكومية لا يكفي أجرة مواصلات، أو وجبة غداء خفيفة في مطعم شعبي لأسرة مؤلفة من أربعة أشخاص، مؤكدين أن إحدى الحلول هي في تحسين الرواتب والأجور ليشعر الموظف أنه قادر على العيش ببحبوحة اقتصادية كما كان قبل 2011، حيث كانت الأسرة “تفطر وتتغدى وتتعشى” بـ 300 ليرة، فسعر الفروج المشوي أو البروستد كان في ذاك الوقت بـ 150-200 ليرة، وصحن البيض بـ 70 ليرة، وبـ 10 ليرات كان المواطن القاطن في المدينة أو على أطرافها يذهب ويعود لوظيفته دون أن تصادفه أية مشكلة بالمواصلات.
غياب العدالة!
ويرى غالبية الشباب ممن في سن العمل أنهم ظلموا خلال العقود الماضية، فمن وجهة نظرهم أن الجهات المعنية فشلت في استثمار طاقاتهم وقدراتهم، وذلك كان سبباً في هجرة الكفاءات، التي لم تجد من يطور ويستثمر مهاراتها بشكل صحيح، ودعمهم بشكل عملي لذلك لا عجب برأيهم أن يفكر الموظف الشاب وحتى العتيق بالاستقالة!.
الوضع سيستمر..
ويؤكد عدد من المختصين والباحثين الاقتصاديين أن تسرب الموظفين من مؤسسات القطاع العام سيتمر في ظل غياب إصلاح نظام العمل الوظيفي في القطاع العام، وكذلك الإصلاح الإداري، مستغربين كثرة الحديث عنه منذ سنوات دون أن يثمر ذلك عن أي شيء يُحفز الموظف على التمسك بفرصة العمل، بل على العكس أصبحت بعض المؤسسات الحكومية بيئات طاردة للموظفين وخاصة أصحاب الكفاءات والخبرات الذين من حقهم البحث عم من يقدّرهم ويدعمهم مادياً ومعنوياً، مؤكدين أن غياب الكفاءات عن مؤسسات الدولة سيفقدها القدرة على القيام بمسؤولياتها ومهامها بكفاءة عالية.
وبين آخرون أن تأخر إصلاح نظام الأجور والرواتب والإصلاح الإداري بشكل عام سيلحق ضرراً بالغاً بالوظيفة الحكومية وسيفقدها الكثير من هيبتها ومكانتها، مطالبين بالشفافية وبمحاسبة الفاسدين والوصوليين الذين تسببوا بتراجع إداري خطير انعكس بترهل مفاصل العمل، نظراً لغياب شخصية القائد الإداري المحفز والمشجع للعملـ وأيضاً غياب التحفيز المادي الذي تتم سرقته من مستحقيه!.
ويرى أصحاب الاختصاص في علم النفس أن إلزام الموظف على العمل دون رضاه، سيزيد الأمور تعقيداً، كون حرمانه من الاستقالة سيجبره لردة فعل سلبية تتجلى في الاستهتار بالعمل وعدم انجازه بشكل جيد ينعكس على تحسين جودة المنتج، مما سيساهم في مضاعفة نسب البطالة المقنعة التي تعاني منها بالأساس مؤسساتنا الحكومية على اختلاف مستوياتها.
لن تتوقف!
بالمختصر، حالات الاستقالات لن تتوقف، وستبقى قائمة طالما لم تتحسن بيئات العمل داخل المؤسسات، وأول شرط هو زيادة الأجر المادي بنسبة كبيرة ترضي الموظفين وتغنيهم عن العمل الثاني أو التفكير بالاستقالة، الأمر الثاني هو خيبة أمل الموظفين وتوقعاتهم في بيئة العمل، لجهة غياب دعم الكفاءات وأصحاب الخبرات، لذا إن أردت المؤسسة الحفاظ على موظفيها يجب أن تعمل على تكريم المجتهدين والمميزين بوضعهم في المكان المناسب والاستفادة من قدراتهم، فليس مقبولاً أن يمضي صاحب الكفاءة والخبرة عمره الوظيفي مجرد موظف عادي بينما من هو أقل منه كفاءة يترقى بالمراتب الوظيفية، بمعنى أن الموظف يبحث عن الاستقالة عندما تغيب في مؤسسته القواعد الواضحة والدقيقة لمكافأة المميزين وعدم مساءلة المقصرين، الأمر الثالث، على المؤسسة أن يكون من ضمن أولوياتها توفير بيئة عمل جاذبة من خلال إراحة الموظفين وليس إرهاقهم، والأهم الوفاء بالوعود من قبل إداراتهم.