د. ناديا خوست “في الحرب والسلام”.. روائية ترقى إلى مصاف العالمية
أمينة عباس
لم تختَر الروائية د. ناديا خوست كمثقفة وكاتبة سورية عبر مسيرتها الطويلة والغنية برجاً عاجياً لها، بل جنَّدت كتاباتها لخدمة وطنها وتاريخه، تتنقل من خلالها بين الماضي والحاضر، وكانت على الدوام وفية لمبادئها وقضايا وطنها، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، وحين شُنّت الحرب على سورية لم تقف مكتوفة الأيدي بل بقي صوتها وقلمها حاضرين دون كلل أو ملل، توضح في كتاباتها خفايا الحرب وتشرح وتحذّر وتفنّد الأكاذيب بوقائع وشهادات ووثائق لتفسر ما حدث ولماذا وكيف؟، ولتختتم هذه الكتابات مؤخراً بروايتها “في الحرب والسلام” الصادرة حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، والتي احتفى بها المركز الثقافي العربي في أبو رمانة مؤخراً من خلال عقد ندوة أدارتها إلهام سلطان وشارك فيها د. محمد الحوراني رئيس اتحاد الكتّاب العرب ود. راتب سكر بحضور كاتبتها، وكانت فرصة لتوجيه التحية لهذه الكاتبة التي ما زالت تؤمن بدور المثقف ورسالته المقدسة في الحياة والمجتمع وتوثيق الأحداث التي مررنا بها.
كتابات تحت النار
وفي حديث مقتضب أرادته للردّ على بعض تساؤلات المشاركين، بيَّنت د. خوست أن الأحداث التي مرت في حياتها، وخاصة الحروب كان لها أثر كبير في كتابة الرواية بأشكالها المتنوعة، ورأت أن الإنسان الذي يمتلك موهبة لا بد له من استخدام الخيال ليكوّن منه ومن الواقع مادة إبداعية، مشيرة في مقدمة روايتها إلى أن أحداث رواياتها السابقة تناولت بلاد الشام حتى تقسيمها، وكانت شخصياتها من الطليعة التي حملت قضايا زمنها، وقد حرصت على حركة الشخصيات في فضاء المكان العام وتفاصيل الحياة اليومية، وكان مشروعها الروائي ملامسة القرن العشرين منذ بداياته إلى نهاياته واقتفاء أثر الصراع العربي الصهيوني في حياة الناس، معتمدة في ذلك الوثيقة والشهادات، وكانت تتصور أن تلك الروايات ستنتهي بنهاية القرن، لكن نهاية القرن العشرين فاجأتنا بأن مراحل التاريخ الإنساني يمكن أن ترتد وتذكّرنا بأن الصراع الكبير على نهج المجتمعات لا يتوقف ما دامت الحياة الإنسانية مستمرة، لذلك وبعد الحرب التي قصدت تدمير البنية المادية والنسيج الاجتماعي بدأت بالجزء الأخير المفترض من الروايات عن بلاد الشام وأثمر ذلك خمسة كتب، مشيرة إلى أن روايتها “في الحرب والسلام” تحكي عن جيل تفتّح في خمسينيات القرن الماضي متطلعاً إلى العلم والثقافة عبر أحداث الوحدة والانفصال وحرب حزيران والعمل الفدائي وحرب تشرين واجتياح لبنان وغزو العراق وإسقاط الاتحاد السوفييتي والحرب على لبنان وغزة والحرب متنوعة الأشكال، مبينة أن شخصيات الرواية تتحول من نضارة تفتّح الشباب والحلم بالمستقبل إلى حرارة الأحداث التي أثّرت في مصائرها الشخصية، وقد اختارت من شخصيات رواياتها السابقة عن بلاد الشام شخصية نفيسة التي أحبت خالد آغا الشهيد في ميسلون لأنها كالذاكرة التي تسند والمُثُل التي تُلهم، منوهة إلى أنه خطر لها أن تسمي الرواية “فجر في الغروب” و”مصائر” ثم وجدت أن عنوان “في الحرب والسلام” أكثر تعبيراً عن الحياة في هذه المنطقة التي تعيش شخصيات هذه الرواية مقطعاً منها.
سيرة ذاتية حاملة للحدث الكبير
وقارب د. الحوراني بين رواية خوست “في الحرب والسلام” ورواية تولستوي “الحرب والسلم” التي هي من أهم الروايات العالمية التي أرَّخت لمرحلة مهمة من تاريخ روسيا والحرب عليها، ولمس وجود مشترَكات وتقاطعات كثيرة، فإذا كانت رواية “الحرب والسلم” بأجزائها قد ركَّزت على محاولة فهم التاريخ وقراءته قراءة الخبير المدقق والأديب القادر على مراجعة هذا التاريخ ونقده بطريقة تمنعنا من الوقوع في كثير من الهفوات والأخطاء والكوارث مستقبلاً، ورواية “في الحرب والسلام” ذهبت في الاتجاه نفسه، وقد نجحت خوست في جعل عملها هذا يدخل في باب الرواية التاريخية السياسية التي تحمل بين طياتها تفاصيل السيرة الذاتية وتنتمي إلى الواقعية والروايات ذات الطابع العقائدي، من غير أن يبعدها هذا عن الوطنية المتغلغلة في مساماتها وعملها، مؤكداً أنه إذا كان تولستوي قد نجح في عمله بنقد التاريخ وعرض تناقضات المؤرخين من خلال رواية الحدث وتفكيكه مضيفاً إلى هذا نظرته وفلسفته في فهم التاريخ من خلال خلعه ثوب الروائي وارتدائه ثوب الفيلسوف المؤرخ والسياسي الحصيف فإن خوست نجحت في تحليل كثير من الأحداث التي عصفت بالمنطقة عموماً فوثّقت بروايتها كثيراً مما حدث في المنطقة، وصوّرت الواقع بحرية عالية لفترة طويلة في تشويق عاطفي من خلال ما كشفته من أحداث العراق ولبنان ومصر، إضافة إلى ما تعرضت له سورية من مؤامرات من خلال السيرة الذاتية التي اشتغلت عليها بحرفية عالية لتكون حاملاً للحدث الكبير المتمثل بالحرب الإرهابية على سورية التي خلّفت الكثير من الخراب والدمار، وإعطاء القارئ صورة أقرب ما تكون إلى الواقعية عن الحياة السورية في حقبة زمنية تمتد لأكثر من ستة عقود، مؤكداً الحوراني بعد أن قدم قراءة عميقة ومفصلة لما ورد في الرواية أن الكاتبة نجحت من خلال إبداعاتها في مختلف الأجناس أن تعيد إلى الأدب واحداً من أهم وظائفه ليكون سجلاً حافظاً لوقائع الأمم وتاريخها، من غير أن تبعد الأدب عن إنسانيته ومبادئه والأخلاق الحاضنة له، مع نجاحها في عملية النقد التاريخي الذي من شأنه أن يحلّق بإبداع الأديب ويسمو به ويجعله أكثر قدرة على الإقناع.
مفاتيح أدبية الأدب
وقدم د. راتب سكّر قراءة تفصيلية للرواية بأحداثها المتشعبة والكثيرة، متتبعاً فيها مصائر شخصياتها التي عرَّضتها الكاتبة لتحولات جذرية في حياتها، متوقفاً عند شخصية نفيسة التي أحضرتها الكاتبة من رواية سابقة لها لتشبه بذلك ما قام به بلزاك في الملهاة الإنسانية من خلال شخصية فوتران، مؤكداً أن الكاتبة تمتلك مفاتيح أدبية الأدب، وقد اعتمدت الوثيقة والشهادات، وبرعت في سردها الذي اعتمد على عدة تقنيات، منها تقنية إدهاش القارئ المعرفي والتي تجلت بالدرجة الأولى بتعريف القارئ بما هو غريب عنه لأن القارئ يجب أن يعرف مالا يعرفه، إلى جانب تقنية الإدهاش وكشف المستور والتناصّ الشعريّ والتناصّ مع التاريخ، حيث تجري الأحداث منذ العام 1950 حتى الآن، وكذلك التناصّ مع التراث العربي، وكانت غاية الكاتبة برأيه في استلهامها للتراث العربي تأكيد الهوية العربية، وقد أقنعتنا دون خطابٍ سياسيّ مباشر أثناء حديثها عن الأحزاب والتيارات، فقدمت عملاً فنياً يرقى لمستوى الأعمال العالمية.
من أهم الروايات الحديثة
وأكدت مديرة الثقافة نعيمة سليمان في مداخلة لها أن رواية الأديبة خوست تُعدّ من أهم الروايات الحديثة فيما تحتويه من فن وإبداع لأنها توثّق لمرحلة تاريخية بذل فيها الشعب السوري كثيراً ليتحدى المؤامرات والإرهاب، في حين رأى عمار بقلة رئيس المركز الثقافي العربي في أبو رمانة أن الرواية في مضمونها الذي يحضّ على الدفاع عن الشام بكل ما فيها من جمال ينسجم مع مهرجان “في الشام روحي”الذي تقام الندوة ضمن فعالياته.
يُذكر أن الندوة بدأت بعرض فيلم وثائقي عن دمشق بعنوان “سحر الشرق” ورد فيه ما قيل وكُتب عنها، إضافة إلى فيلم قصير تحدثت فيه د.ناديا خوست عن مسيرتها الطويلة والغنية بدءاً من طفولتها التي قضتها في بيوت وحارات دمشق القديمة والأثر الذي تركته بكتاباتها، وانتهاءً بروايتها “في الحرب والسلام”.