جماليات الصورة الشعرية في شعر إبراهيم الأحمد
علي الدندح
يفرض الشعر الشعبي نفسه في الساحة الثقافية والأدبية، حاملاً تفاصيل إنسانية ووطنية وقومية، شأنه في ذلك شأن الشعر الفصيح، وقد شرعنته حياة الناس وتعابيرهم، فلم يزهدوا به رغم كل التطور الحاصل، وعلى الرغم من إدراكهم لضرورة اللغة الفصيحة واستخدامها رسمياً، إلا أنهم ما زالوا يرونه وسيطاً جميلاً وفناً إبداعياً جديراً بالدراسة والوقوف على وعائه اللغوي وإيقاعه الوزني ومعجم ألفاظه وأهم رواده و مدارسه ومشاربه. والبيئات التي كانت وما زالت تعاصره، زادت من قيمة وأمثولة الشعراء الشعبيين من محمد بن لعبون والأمير خالد الفيصل وعريان السيد خلف و مظفر النواب وعمر الفرا وعبد الناصر الحمد إلى عبد الكريم العفيدلي وغيرهم.
اليوم، وعطفاً على ما تقدم من تعريفٍ بالأسماء والأمكنة، نسافر معاً في رحلة أدبية نبحث فيها عن جماليات الصورة الشعرية.
ففي التجربة الشعبية، للشاعر إبراهيم الأحمد، القادم إلينا من سهول القمح، وبياض القطن، وسحر الطبيعة البكر في ريف حلب وامتداداتها نحو النهر والبادية، نلاحظ الغنى الفني واللغوي التي تسرح في مرابع الشعر الشعبي ببساطة الماء ضمن منطوق اللغة اليومية العامة أو الدارجة.. وقد دأب الشاعر على تفعيل الصورة الشعرية في قصيدته منذ بدايته في مطلع التسعينيات من القرن الماضي ليؤكد للمتلقي بأن له لغة شعرية خاصة مدعومة بفنون الشعر سواء في الصورة الشعرية أو الانزياحات اللغوية والمجاز والمفارقة التي لاحت في معظم قصائده التي احتفظ بها حبيسة أدراج قلبه، كنوع من الانحياز إلى خصوصية من أرادهم أبطالاً لمشروعه الشعري الشعبي الناجز، يقول:
لا تسافر من غير لحظة وداع
يمكن وداعك يترك بقلبي أمل
خلني أشوفك قبل ما تشد الشراع
ما دام ما ضل ولا حل محتمل
ولكن، لنقف هنا عند قضية الصورة الشعرية لدى الأحمد، ونتساءل: أي من هذه الصور اشتغل عليها نصه الشعري ونمّاه عبر رحلته الشعرية الطويلة التي جاوزت الثلاثة عقود من الزمن.. وما هي المكامن الفنية التي حافظت على هذه الصورة الشعرية وفعلتها على نحو متنامٍ ومتصاعدٍ عبر مساره الشعري..؟
سنجيب على هذه الأسئلة لنشخص هذا الجانب الفاعل والمؤثر في تجربته.
يقول الأحمد في نص تحت عنوان “إلنا الله”:
إلنا الله و إحنا علينا الصبر
إلنا رب الكون مبشر الصابرين
شنهو ذنبنا إن هوينا من الزغر
و من جملة الناس حبينا العزيزين
يا لايمي لا تلوم ما عندك عذر
لومك جهل بالحب ال شرعه الدين
لو تفهم الحب تحسبله قدر
و لا تلوم بيوم أبداً عاشقين
إنّ الصورة الشعرية عنده يمكن رصدها بميزتين أساسيتين، الأولى هي الصورة الشعرية المستخدمة لفنون الشعر المعروفة كالإيجاز والمجاز والتكثيف والحذف والكناية والتشبيه والاستعارة وغيرها من الفنون التي تحقق الشعرية في النص ضمن مسار الصورة الشعرية.. أي تلك التي تحقق الانزياح اللغوي وكسر المألوف وتحقيق الدهشة وكسر أفق التوقع أو التلقي، والسمة الثانية، هي أنّ هذه الصورة الشعرية محمولة على أكف فكرة شعرية مستمرة داخل النص.. أي هناك مهاد دلالي وأرضية صلبة تسير عليها هذه الصورة الشعرية بما يحقق اندماجاً نصياً دلالياً وفنياً بين الصورة والفكرة .. فتكون شعرية النص منبثقة من هذا التعالق وهذا التآزر بين هذين المكونين الفعالين في النص وتفعيلها بقدرة الشاعر على التنسيق الفني بينهما والتناغم الدلالي الذي يشع جمالياً على الجانبين الصورة والفكرة.. يقول:
صديقي هذا الجرح
أسهر وياه للصبح
ألاطفه و أسامره و أنادمه
يسقيني كاسات الألم
و يطرب على كاس الملح
صديقي هذا الجرح
إنّ الفكرة الشعرية وحدها لا تكوّن قصيدة مميزة، إذا لم تعالج هذه الفكرة بمقومات فنية ترفعها إلى مقام الشعرية المتوهجة في النص..
إنّ كثيراً من الأفكار الشعرية النادرة لم تتح لها معالجات فنية قادرة على تنويرها أو تثويرها شعرياً.. فبقيت هذه الأفكار مشروع قصائد.. أو قصائد لم ترتقِ إلى مستوى التميز والإدهاش..
من دون البشر قلبي هايم بيك
تتغلى علي وأنت غالي
أنا على دروبك صرت ناطور
وأنت تمر من يمي لا تبالي
مرات أزعل أقول خله يروح
تعبني بحياتي ومرمر احوالي
أزعل و ال يصالحني قلبي عليك
و يقلي الحلو من حقه التعالي
لا توجد صورة شعرية ابراهيم الأحمد، ولكنها صورة ممسوكة بقوة السياق النصي، والعمق الدلالي المنبثق من خزين الفكرة الشعرية لديه.. فمثلاً نقرأ
مستحيل انساك و أبعد مستحيل
عندي ما هي لعبة هواك
عفت كل الناس واخترتك خليل
و أنت الوحيد اللي يسحرني بهلاك
لقد تحقق الآن مسار الفكرة الشعرية وسياقها، فعلى الشاعر أن يكرس تحقيق هذا المسار للفكرة من ناحية الدلالة ويكرس التوهج الفني، أو المعالجة الشعرية للنص، ليجسد شعرية الفكرة وينميها من خلال هذه المعالجة الفنية.. فكانت الصور الشعرية المنتشرة في القصيدة أو التي تأتي ضمن سياقها وضمن متطلبات المساحة الدلالية التي تجعل الفكرة تشع بصورتها.. على أساس أنّ الفكرة أو الموضوع الذي تناوله الشاعر هو اكبر من الصورة الشعرية.. بالتأكيد، فإنّ القصيدة ليست كلها صوراً شعرية، ولا يجب أن تكون كذلك، فهناك لغة حقيقية إخبارية يتطلبها النص الشعري في كثير من الأحيان لكي يعبّر عن موضوعه وموضوعيته.. أما الصورة الشعرية، فهي الالتماعات والتحليق الفني ضمن هذا النص.. أو كما قلنا، هي الجانب الأكبر من المعالجة الفنية لهذا الموضوع.. ولاسيما إذا كان الموضوع أساساً فكرة شعرية و ما أكثر الأفكار في تجربة الشاعر إبراهيم الأحمد.