الفنون عتبة لتجاوز الألم
سلوى عباس
في جو امتزجت فيه ألفة الروح مع ألفة المكان عبر امتدادات واسعة من الإشراق الشغوف بالحب والجمال، أقامت وزارة الثقافة- مديرية الفنون الجميلة، بالتعاون مع وزارة السياحة وغاليري “ألف نون” ملتقى جبلة للفنون تحت عنوان “الفنون عتبة لتجاوز الألم” بمشاركة 17 فناناً، استمر أسبوعاً كاملاً وكان عبارة عن سباق لهؤلاء الفنانين مع الزمن ومع الذات لإنجاز إبداعات تشكيلية كلّ حسب طريقته وأسلوبه الفني، تجمعهم روح واحدة تقوم على الإيمان بالعمل الجماعي المفتوح على الحوار الحر وتبادل الأفكار والتجارب المتنوعة، فأنتجوا بتلاقيهم واجتهادهم وحبهم لفنهم أكثر من 34 لوحة كانت جميعها تحاكي الحلم والأمل المشرق الواعد.
هذا الملتقى أتاح للفنانين أن يلتقوا ويعملوا ويعبّروا عن أفكارهم بحريّة ضمن أسلوبهم وتقنياتهم التي اعتادوا العمل بها، فالفن ليس مهنة مجردة، بل هناك قواعد وضوابط له يجب التقيّد بها، وبعض الفنانين ركزوا على مأساة الزلزال برموز تعبيرية، ومنهم من تناول الموضوع من خلال إظهار فكرة الجمال وجمالية المدينة، وقد عبّر الفنانون عن مشاركاتهم بالقول: نحن أهل البلد قادرون بالفن أن ندعم أهالينا المتضرّرين من الزلزال بلوحاتنا، وحسب تصريحات مدير الفنون الجميلة في وزارة الثقافة والمشارك في المعرض الفنان وسيم عبد الحميد أشار إلى أن الهدف من هذا الملتقى دعم الفنانين ودعم مدينة جبلة، مدينة الفن والحب والشعر والعطاء والأدب التي نُكبت بكارثة الزلزال، وهذا الملتقى خطوة أولى في مشروع مشابه يشمل كلّ المحافظات التي نكبها الزلزال.
الإعلامي والناقد سعد القاسم أشار إلى أن أعمال عدد من الفنانين المشاركين مستواها معروف دائماً كالفنانين عمار الشوا وكائد حيدر وبسام ناصر سموقان، إذ لا يفاجئنا هؤلاء بما يقدمون لأنه أصبح لهم أسلوبهم الخاص الذي يعرفه المتلقي بمجرد النظر إلى لوحتهم، لكن حالة الإدهاش تبقى حاضرة لديهم، أيضاً الفنان بديع جحجاح الذي وفق ما أرى – والحديث للأستاذ سعد – تبدو مشاركته في هذا الملتقى أجمل من كل أعماله السابقة كونها مشغولة بحساسية عالية، لكن بالعموم لا يوجد في الملتقى عمل ضعيف، ومستوى الأعمال كلها من الجيد إلى الأعلى، والأهم هي الجدية التي عمل بها الفنانون جميعاً، وما اعتبرته أكثر أهمية هو الحالة التفاعلية بين الفنانين مع بعضهم البعض ومع الناس الذين جاؤوا للملتقى وهم غير مشاركين، لذلك أرى أن الملتقى قدّم خطوة مهمة جداً باتجاه كسر الخوف والرهبة لدى الناس، فما يهمنا أن يحقق فننا حضوره بين الناس.
أثناء زيارتنا للملتقى توقفنا عند تجارب بعض الفنانين كالفنان بديع جحجاح الذي يرى أن الفنون ليست فقط عتبة لتجاوز الألم، وإنما لبناء ذاكرة من الوعي نستطيع من خلالها أن نبني جسور المودة والإلهام والارتقاء، وفيها صبر والكثير من الأشياء الجميلة والراقية لوطن مشتهى من جهة الحب والحق والخير والجمال.
ويتابع جحجاح: أنا كفنان تشكيلي رغبت أن ألتقط الجرف الصخري الذي يقف عليه الصيادون أثناء الصيد، وحالة الصبر والتأمل أمام هذه المساحة الهائلة الحرة، وهذا البحر الساحر الذي يكتنز أسراراً وعوالم متنوعة، وحتى إذا انتقلنا إلى اللوحة التي تضمّ قارباً غير مكتمل، فهي تتحدث عن الأحلام غير المكتملة والتي تنتظر وقتاً مختلفاً حتى نستطيع تحقيقها.
الفنانة هيام سلمان رأت في الملتقى خطوة مهمّة وعلامة فارقة، وتحديداً في مكان كمدرج جبلة الأثري الذي يمثل رمزاً مهماً من العراقة والتاريخ، فكان هذا الملتقى فرصة حقيقية جمعت أفكاراً وشخصيات فنية في مناخ لطيف وهادئ، وكان حوار كلّ فنان مع عمله يختلف عن الآخر، لكن يجمعهم هدف واحد، أما ما قد يختلف فهو عملية الأداء والتعامل مع مادة جديدة، والفنانون جميعاً يرون أنفسهم تلامذة أمام الفن الذي يقدّم لهم كل يوم شيئاً، سواء على صعيد اللون أو التكنيك، فهو حالة من اللعب والاكتشاف الواعي للحالة.
الفنان علي مقوص قال: نحن في حالة لها بعد إنساني وجداني عميق، وأحببنا أن نقدّم حالة لها بعدها الاجتماعي، حيث يشاركنا الكبار والصغار الذين يزورون الملتقى ويعيشون معنا جواً مختلفاً نبيلاً ولطيفاً، فالملتقى يمثل نوعاً من المشاركة الوجدانية للإنسان الذي تعرّض لصدمة عنيفة بسبب الزلزال، وقد كانت هذه التجربة جيدة تقوم في حقيقتها على معايشة مجموعة من الفنانين ضمن حيّز مكاني وزماني بحميمية فيها شيء من الكشف المباشر تجاه الأشياء، فكانت شخصيات واقعية محضة.
الفنان سموقان يتبع في الفن أسلوباً خاصاً يختلف به عن غيره من الفنانين، فطريقته بالرسم تعتمد على البحث في المخفي من الأشياء، وجعل هذا المخفي حاضراً أمام المتلقي، والضوء بطل حقيقي في لوحاته رغم أنه يبحث في الشكل بقصد تكوين لغة تشكيلية تحمل خصوصية تجربته، وخصوصية منطقة أوغاريت التي يعيش فيها، فيحمّل الألوان الزيتية التي يستخدمها وظيفة إضافية لوظيفتها التقنية هي الشفافية والحالة الشعرية.