العرب ليسوا بحاجة إلى مرسوم من البيت الأبيض
عناية ناصر
يتعرض نظام البترودولار الذي زاد بشكل كبير من هيمنة الولايات المتحدة على العالم منذ السبعينيات للتهديد بسبب التحولات الكبرى في النظام السياسي العالمي. وقد بدا ذلك من خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى السعودية، والتي منيت بالفشل، إذ لم تكشف الزيارة عن تضاؤل قوة الولايات المتحدة في المنطقة فحسب، بل تحولت أيضاً إلى منصة للسعودية لتوضيح خططها طويلة الأجل، والتي يتم التأكيد عليها بشكل أساسي على علاقتها مع الصين.
والموقف المتغير للعديد من الدول تجاه أمريكا هو دليل على أن سياسات المحافظين الجدد والديمقراطية الليبرالية، والتي “تناسب الجميع”، تعتبر كارثية في السياسة الخارجية. بعبارة أخرى ، كانت الدول “الصديقة” للولايات المتحدة تنتظر صعود محور آخر في السياسة العالمية للهروب من إملاءات العم سام.
اعتمدت السياسة الخارجية للولايات المتحدة منذ الحرب الباردة أساساً على تقسيم الدول إلى فئتين: دول مع الولايات المتحدة، ودول ضد الولايات المتحدة. وهذا يعني أن أي بلد يتابع شؤونه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الخاصة به دون “موافقة” الولايات المتحدة سيقع، بطبيعة الحال، في الفئة الثانية. إذا كان بلد ما غنياً بالموارد، ويقع في منطقة جيوسياسية، أو لديه اقتصادات ذاتية الاكتفاء للسوق الحرة، أو ينتهك “النظام القائم على القواعد” الذي أنشأته بعض الدول الغربية، فسيكون هدفاً للتدخل الغربي.
تاريخياً، من الواضح أن أي دولة تتحدى القوة المهيمنة، أو تتحدى الوضع الراهن الذي أسسته القوة المهيمنة، ستزيد من احتمال خوضها للحرب ضد بعضها البعض. ومنذ اختراع أسلحة الدمار الشامل مثل القنابل النووية، فإن أي قوة عظمى تقاتل ضد بعضها البعض ستدخل في مستنقع التدمير المتبادل المؤكد. لقد أوضحت حقبة ما بعد هيروشيما ناغازاكي أن لعبة محصلتها صفر لن تدمر بلداً أو طرفاً، لكنها ستكون بداية نهاية الحضارة الإنسانية نفسها.
يوضح الاختلاف بين السياسة الخارجية لدولة قومية مثل الولايات المتحدة، ودولة حضارية مثل الصين، كيفية التعامل مع كل دولة من خلال احترام اختلافاتها بدلاً من فرض نهج واحد يناسب الجميع. هذا هو السبب في أن نهج الربح للجميع من قبل مجموعة “البريكس” يجتذب الآن العديد من البلدان، بما في ذلك الدول التي كانت صديقة للولايات المتحدة. لقد كان ذلك واضحاً في كيب تاون بجنوب إفريقيا عندما استضافوا الاجتماع الوزاري “لأصدقاء بريك”، وتحدث خلاله الأمير فيصل عن العلاقات التجارية المتنامية مع دول البريكس، حيث تعتبر السعودية أكبر شريك تجاري في الشرق الأوسط.
في عام 2017 ، بلغت القيمة الإجمالية للتجارة الثنائية مع دول البريكس 81 مليار دولار، وزادت إلى 128 مليار دولار في عام 2021، وتجاوزت 160 مليار دولار في عام 2022. وكانت القيمة الإجمالية المتزايدة للتجارة الثنائية هي نتيجة العلاقات المتنامية بين السعودية ودول البريكس. وقد تردد صدى نفس اللهجة في المؤتمر الصحفي المشترك بين وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ووزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان. ففي الثامن من حزيران الجاري، أوضح الأمير فيصل أن علاقات السعودية مع كل من الولايات المتحدة، والصين ليست لعبة محصلتها صفر. وأضاف أن السعودية قادرة على إقامة شراكات ، وارتباطات متعددة في كثير من الحالات، وبوصفها أكبر شريك تجاري، فمن الطبيعي أن يكون لديها تفاعلات، وتقاطعات لا حصر لها مع الصين. قبل بضع سنوات، كان من غير المعقول الحصول على مثل هذا النوع من التصريحات من قبل السعودية. والبيان واضح الآن: “السعودية ستقرر سياستها الخارجية، ولم تعد بحاجة إلى مرسوم من البيت الأبيض”.
إن دول غرب آسيا في حاجة ماسة إلى تنويع اقتصاداتها التي اعتمدت بشكل أساسي على النفط. ولتحقيق ذلك، فإنهم يعرفون بالضبط ما يجب عليهم فعله، ومن ينبغي عليهم الاقتراب منه. ومع إدراك الوضع الحالي للولايات المتحدة وحلفائها، سيكون الاعتماد عليهم بمثابة مخاطرة كبيرة. بدلاً من ذلك، يقومون الآن ببناء شبكات جديدة، ويحاولون حل المشكلات التي واجهوها مع الدول التي حاولوا تدميرها من قبل.
كما إن عودة سورية إلى جامعة الدول العربية، والنجاح الدبلوماسي الأخير بين إيران والسعودية، ووقف إطلاق النار في اليمن، هي جهود كبيرة لإحلال السلام في المنطقة.
الخلاصة الرئيسية هي أنه قبل الدخول في صفقات كبيرة، من المهم إرساء السلام وحل النزاعات حتى لا يتعرض الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي في غرب آسيا للخطر. لقد توصلت الدول إلى اتفاقيات، لأنها أدركت أنه من المستحيل الاستمرار في عقلية الحرب الباردة، والانخراط في حروب وحشية لا تنتهي أبداً، ولهذا السبب يجتمعون ويتحالفون مع دول مثل الصين وروسيا والهند. في الأسبوع الأخير من شهر أيار الماضي، بدأت السعودية محادثات للانضمام إلى” بنك التنمية الجديد”، المؤسسة المالية لبريكس التي بدأت بمواجهة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كما سيؤدي دخول إيران و السعودية إلى منظمة شنغهاي للتعاون إلى تطوير الأجهزة الأمنية في غرب آسيا.
في الوقت الحالي، تنتقل هذه البلدان ببطء، ولكن بثبات إلى أنماط أخرى من التبادل، مما يزيد من توسيع عملية إزالة الدولار. وكما قال بنك ” جي بي مورغان” في الخامس من حزيران الجاري: “إن تراجع الدولار واضح في احتياطيات العملات الأجنبية حيث انخفضت حصة الدولار الأمريكي إلى مستوى قياسي مع انخفاض حصة الصادرات. وأحد الأسباب الرئيسية وراء انخفاض الطلب على العملة الأمريكية هو أن البنوك المركزية، وخاصة البنوك المركزية في البلدان النامية، أصبحت الآن تتجه نحو الذهب”.
إذا استمرت الأمور على هذا النحو، فقد يصل المعدن الأصفر إلى 2100 دولار للأونصة بحلول نهاية عام 2023. وبحلول بداية السنة المالية المقبلة، قد يصل إلى 2200 دولار. قال بنك الاتحاد السويسري في أيار الماضي إنه يعتقد أن شراء البنك المركزي للذهب سيستمر بسبب المخاوف الجيوسياسية، وارتفاع التضخم. كما لا يوجد بلد يريد أن يمر بحالة بائسة من عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي، فالمصلحة الرئيسية للأمة هي حماية استقرارها، وهذا هو السبب في أن البلدان تسعى إلى صيغة مربحة للجانبين، وتتحدث بلغة الدبلوماسية، وتنحي عداواتها جانباً بينما تنسج شبكات جديدة.
بدأ قرار الولايات المتحدة بتجميد احتياطيات النقد الأجنبي الروسية في التأثير على سلوك الدول الأخرى، وباتت تخشى أن تواجه عواقب مماثلة في حال بدأت في مواجهة الغرب. كل هذه التطورات دفعتهم للالتقاء، والتفكير في البدائل بدلاً من التمسك بحزب واحد، ويعود السبب الرئيسي وراء معاناة الاتحاد الأوروبي وبريطانيا من الأزمة العالمية الحالية بشكل أساسي إلى فشلهما في بناء شبكات متنوعة، وسقوطهما في فخ خطاب الحرب الباردة الثانية.