مازن مبارك: أعداء العرب ألبسوا العاميات ثوب اللهجات تزويراً وخداعاً
نجوى صليبه
على الرّغم من الدّراسات الكثيرة التي قدّمت حوله، ما يزال موضوع اللغة واللهجة والفوارق والمشتركات بينهما مغرياً لباحثين ودارسين عرب راغبين في خدمة لغتهم وتأصيلها وتقويتها في وجه الطّامعين من جهة، وباحثين ودارسين للهجات العربية ليكونوا جواسيس بلادهم في المجتمعات العربية من جهة أخرى. يقول الدّكتور مازن مبارك: أعداء العرب يسرّون بهذا التّفرق اللساني، لقد شوّهوا دلالات الكلمات وأوهمونا بأنّ عامّياتنا لهجات لنبقيها ونشجّعها ونكتب بها، وألبسوا العاميات ثوب اللهجات تمويهاً وتزويراً وخداعاً، وهذا يجعلهم أكثر قدرةً على الاختلاط الاجتماعي والتّخفي بالزّي الذي يريدون والعيش في طمأنينة وأمان ومداخلة المواطنين في حياتهم.
وخلال المحاضرة التي قدّمها في مجمع اللغة العربية حول اللغة واللهجة، بيّن مبارك: اللهجة هي اللغة اللسان، أي هي اللغة، يُقال فلان فصيح اللسان واللهجة، وهي اللغة التي جُبل عليها واعتادها ونشأ عليها، والجرس هو الصّوت والتّجرّس يعني التّكلّم، وتجرّس إذا تكلم بشيء وتنغّم، ومنه الجرس الذي يضرب به في المدارس، وكثيراً ما نجد في كتب اللغة عند العرب ومعجماتها عن ترادف الكلمتين: اللغة واللهجة، كأن يقولوا هذه لهجة ربيعة وهذه لغة تميم، لكنّ الخلافات الصّوتية عند العرب لتؤثّر في وحدة اللغة وإن كانت تؤثر في درجة الفصاحة، فقد عبّر كثيرون عن اللهجات عند القدماء باللغات وألّفوا في ذلك كتباً عنوانها “اللغات” وهي في حقيقتها اللهجات، ولم يكن لدى القدماء فرق بين اللغة واللهجة وقالوا: كانت قريش تسمع لهجات ـ أي لغات ـ العرب وتختار منها لغتها، وهناك أمثلة كثيرة، أمّا المحدثون فأكثرهم على أنّ اللغة أعمّ من اللهجة وأنّ اللهجة هي صفة من الصّفات الصّوتية للغة من اللغات في بيئة من البيئات، واللهجة جَرْسٌ للغات، وتالياً إذا كان لنا لغة واحدة مشتركة في كلماتها ودلالاتها وأساليبها وكانت تلفظ بطرق مختلفة في بيئة من البيئات وتتباين حروفها بصفاتها ومخارجها قلنا إنّ في تلك اللغة لهجات مختلفة، لذلك فإنّ اللغة الواحدة والموحّدة هي التي تجمعنا من المحيط إلى الخليج.
ويضيف مبارك: عاميتنا لغة لأنّها تختلف بمفرداتها وبما دخلها من لغات الذين استعمروا بلادنا في تونس وبغداد ودمشق، فاللغات العامية لغات وليست لهجات واللهجة تختلف في نطق الكلمة، والعامّيات في بلادنا العربية أقرب إلى أن تكون لغة منها إلى أن تكون لهجة من لهجاتنا العربية الواحدة، وكلما اشتدّ الشّوق والشّعور والرّغبة إلى وحدة الأمّة يجب أن تشتد الرّغبة إلى الأخذ بالعناصر الموحّدة ونبذ كلّ ما يفرّق بين شعوب الأمّة الواحدة، وأهم عوامل توحيد الأمّة هو توحيد اللغة لأنّها أقوى عوامل الوحدة القومية والتّقارب الفكري ووحدة الثّقافة.
لكن يبقى القول شيء والفعل شيء آخر، نتحدّث هنا عن واقع اللغة واللهجة في الوطن العربي، يوضّح مبارك: إنّ السماح لهذه الفوضى اللغوية التي يعيشها الوطن العربي، اليوم، أمرٌ عجيب يجعلنا في مجتمعين على الأقلّ، أحدهما في جامعاتنا والآخر في بيوتنا وشوارعنا ووسائل اتّصالنا بل في إعلامنا في بعض الأحيان، وإنّ انتشار العامّيات في الأقطار، اليوم، يباعد بين شعوبها، ويخشى أن يصبح لكلّ دولة لغتها.
ويستذكر مبارك ما كتبه دبلوماسي بريطاني في صحيفة “الايكونومست” في شهر أيلول من العام الماضي حول الواقع السّيئ للغة العربية في الوطن العربي، وفيها يقول إنّ العرب اليوم يتحدّثون عدداً كبيراً من اللهجات، وأنّ اللغة العربية تتآكل وتذوب في لهجات هجينة وستكون ميتة في قرن من الزّمان، فالعرب لم يستطيعوا المحافظة على لغاتهم، ما يمهّد لانتشار اللغة الإنكليزية، وينوّه مبارك بأمر مهمّ هو كتابة الأدب على اختلاف أنواعه بالعامية، مشيراً إلى حصول روائية مصرية على جائزة أدبية في عام 2019 عن رواية كتبتها بالعامية المصرية، ويضيف: بعض زملائنا العرب يرون أنّ هناك مبالغةً فيما نقول، وأنّ العامية والفصيح لغتان تتعايشان وأنّه لا ضرر على الفصيح من العامية، وأنا أرى أنّ حسن الظّنّ هنا ورطة وغفلة، لأنّ الذين يقولون ذلك أغمضوا عيونهم عن أنّ الدّول الغربية التي يتحدّثون عنها لا تسمح بنشر أي شيء بالعامية حتّى في الإعلانات، ولا تسمح لها بأن تظهر مكتوبةً على الإطلاق، كما أنّهم أنشأوا معاهد لتدريس اللهجات المحلية في البلاد العربية ولاسيّما في فلسطين وسورية لتكون مراجع لهم، ويقنعون الطّلاب والدّارسين بدراسات عليا تصبّ في قنوات التّوجيه السّياسي من أجل قنصلياتهم وسفاراتهم، وتوجيه من أتقن تلك اللهجات إلى مناطقها في بلاد العرب، فهناك رسائل دكتوراه وماجستير صدرت لطلاب وباحثين عرب تحت عناوين من شاكلة “لهجة القاهرة” و”لهجة الكرنك” و”لهجة عدن” و”لهجة الرّياض” و”اللغة العربية العامية في مصر والشام”.
ويختم مبارك بالقول: اللغة الفصيحة، اليوم، هي الدّليل الوحيد على وحدة أمّتنا ورمزها، لذلك علينا أن نسعى إلى تمكينها وتقويتها، لأنّها واحدة موحّدة وسائدة في كلّ مجالات حياتنا، ولابدّ من وضع سياسة لغوية تحفظ للعربية منزلتها وتسخّر في دراستها المناهج والوسائل الحديثة وكلّ الإمكانيات.