في بعض دلائل ومعاني “القنيطرة 1974”
أحمد حسن
منذ تسعة وأربعين عاماً رفع القائد المؤسّس حافظ الأسد العلم العربي السوري في سماء القنيطرة المحرّرة، كدلالة وطنية على التحرير والنصر، بيد أن ذلك لم يكن، في جوهره، احتفاءً فولكلورياً في لحظة زمنية محدّدة، ولأمر معيّن، بقدر ما كان، أي ذلك الاحتفال التاريخي، امتداداً طبيعياً لإرث سوري خالد في التوق الدائم للحرية والاستقلال نتوارثه جيلاً إثر آخر.
بهذا المعنى، نفهم كيف أن تلك اللحظة لم تصبح، بكل حمولاتها ودلالاتها الهائلة، تاريخاً ماضياً – إلا بالصيغة المتعارف عليها للتأريخ – بقدر ما غدت واقعاً يومياً وتوقاً دائماً نعيشه، ونطلبه، بكل جوارحنا، وخاصة منذ أن بدأت تلك الحرب الهجينة علينا في مطلع العشرية الثانية من هذا القرن. لذلك تحديداً، نجد أن “حماة الديار” الذين خرجوا من رحم الشعب السوري وكتبوا قصة الانتصار على العدو الصهيوني، عام 1974، هم ذاتهم الذين يكتبون اليوم – ومنذ أكثر من عشر سنوات – قصة انتصار جديدة ضد العدو ذاته، وإن تقنّع بأقنعة مختلفة ودخل المعركة بشعارات أخرى لكنها جميعها ترمي إلى هدف واحد وتتسق مع الرغبة الصهيونية القديمة ذاتها: إركاع سورية واستتباعها، فذلك أيضاً “إرث” استعماري قديم لم يكن هنري كيسنجر في جولاته المكوكية، حينها، أي إبّان حرب تشرين، سوى مفصل من مفاصله العديدة والمتنوعة، وأمر يحاول تكراره اليوم، وإن بدراية أقل، “مبعوثو” المرحلة والمعركة الحالية.
ولذلك أيضاً، نجد أن الشعب السوري الذي دخل حرب تشرين التحريرية واعياً بحجم التضحيات التي تتطلبها ووصل حينها إلى لحظة رفع العلم في القنيطرة، هو ذاته الذي دخل واعياً أيضاً بحجم التضحيات المطلوبة في مواجهة شرسة للدفاع عن وحدة أراضي بلده واستقلالها، وسيصل حتماً إلى لحظة الانتصار ذاتها. وكما فعل ذلك الشاب الذي التحق بالجيش منذ أن بدأت حرب تشرين رغم أنه لم يكن مطلوباً لخدمة العلم حينها، وسائق الدبابة الذي دُمّرت دبابته بصاروخ معادٍ فسارع فوراً لقيادة أخرى، كشفت بعض التسجيلات الصوتية المنتشرة أن أحد أفراد الجيش العربي السوري الذين تعرّضوا لكمين غادر في الأحداث الأخيرة، كان همّه الأوحد والأكبر أن يوصل للجميع – قادته قبل أهله- أنه لن يستسلم وفي جعبته طلقة واحدة، ولن يسلّم موقعه وهناك نفَس واحد يتردّد في صدره.
خلاصة القول، لم تكن لحظة القنيطرة عام 1974، على رمزيتها البالغة الأهمية، إلا امتداداً لقرار سوري قديم ما زال فاعلاً وسارياً وهو يستنسخ اليوم، وإن بأشكال جديدة، كل اللحظات التي سبقت تلك “اللحظة” التاريخية ليعيد تمثيلها عبر جعلها واقعاً معيشاً، بدءاً من ذلك العلم الذي يرتفع في سماء الجولان السوري المحتل – متحدّياً المشروع الخبيث بضمّ آلاف الدونمات الزراعية من أراضي أهلنا في الجولان لإنشاء التوربينات الهوائية العملاقة – وصولاً إلى ذاك الذي يرتفع في وجه المحتل الأمريكي والتركي، وأتباعهما، كدلالة مبهرة على الوطنية وإيمان راسخ بقرب رفعه منتصراً على كل أرجاء الجغرافيا السورية طال الزمن أم قصر.