الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عودة للذاكرة

عبد الكريم النّاعم

جلس صديقي بكلّ تهذيب يليق به وقال: في آخر زيارة كان حديثنا عن الذّاكرة، وانقطع الحديث ووعدتَ باستكماله.

قلت: أذكر أنّني أوردتُ في سياق الحديث مقولة “إذا أردتَ أن تستعبد شعباً فامسح ذاكرته”.

قال: أذكر ذلك وهذه الجملة هي التي استفزّتني للمتابعة، لما فيها من إيحاءات وأصداء واسعة.

قلت: بعض الناس يفقدون ذاكرتهم إثر حادث ما، هذا ما قرأناه في بعض الروايات، أو شاهدناه في بعض أفلام السينما، فكيف يتصرّف هؤلاء؟.

قال: يغلب على تصرّفاتهم أنّها شديدة البرودة، والشرود، وتخلو استجاباتهم من أية حرارة قد يشعر بها الآخرون، فهم زيادة في الوقت وفي الحضور، ولا يدركون ذلك.

قلت: هل شاهدتَ مَن أصابه الزهايمر بدرجة عالية؟.

قال: نعم شاهدتُ أباً لا يعرف ابنه، ولا أين هو، ولا يعرف أحداً من زوّاره الذين أمضى حياته معهم، وحين يحيطون به تبدو على وجهه علامة البلَه، فهو موجود جسداً وغائب بوعيه، ولا يجيد عملاً ممّا كان يعمله، فهو يعيش لأنه غير ميت.

قلت: ما قيمة إنسان كهذا؟.

قال: هو بلا أية قيمة.

قلت: هل يحزن أحد لموته.

قال: “ما أظنّ، ويغلب القول إنّه استراح وأراح.

قلت: هذا هو الحال الذي تريدنا أن نكون عليه قوى النّهب الكبرى، التي بدأت أطماعها مع وجود النفط في هذه البقعة من الأرض، وتهيّأ لها من يجيد التفريط، فشكّل حلفاً معها، وقد واجهنا ما واجهنا جرّاء ذلك، وتاريخنا الحديث خير شاهد، وسيبقى هذا الحلف قائماً ما دامت الشركات الكبرى نُحقّق أرباحها المذهلة، وثمّة مَن لا يعنيه من ذلك إلاّ أن يتمتّع، ولا همّ آخر يقلق راحته، وكيف يهتمّ مَن أدار ظهره لحاجات الأمّة ولا تعنيه في شيء، وزاد في مساحة التآمر وحدّته اكتشاف بحار من الغاز، والذي تتوقّف معامل الغرب، وتدفئة مواطنيه على ضخّه.

قال: ما علاقة هذا بما كنّا فيه!.

قلت: كلّ نسيان هو تحقيق للمقولة التي ذكرناها من مسح الذاكرة، والفارق بين الاثنين، أنّ الأول تُمحى ذاكرته، عبر خطّة ممنهجة، والثاني يدير ظهره لها، مُعرِضاً غير آبه.

قال: هل تعني أنّ كلّ هذا التراث الطويل العريض هو ممّا يُعتدّ به.

قلت: إنّ في تراثنا المضيء والعاتم، كما هو الحال في تُراث غيرنا من الأمم، ولذا تعمد مراكز الدراسات المتخصّصة فتفرد صفحة العاتم، وتزيد في مساحتها وفي عتمتها، بل وتنبشها إذا كانت قد نُسيت وتضخّ في أوردتها الميتة الحياة.

قال: مثل ماذا؟

قلت: مثل المذهبيّة، والطائفيّة، والعشائريّة، والقبليّة، فتوقظها، وتنفخ في نارها.

قال: أين مسح الذاكرة في ذلك؟

قلت: تمسح التعايش الذي مضت عليه أزمنة مديدة، وتنفخ في نار الفتنة، ثم لا تنسَ ما تضخّه الفضائيات في العالم، وكلها تسعى لتحقيق مقولة “العالم قرية صغيرة”، والمقولة تريد للعالم كله أن يكون على النمط الغربي، من اللباس حتى أطعمة ماكدونالد، حتى البنطلونات الممزّقة، لقد أذهلني أن يكون في حي شعبي كافتريات بأسماء رجال المافيا، وهذا كلّه على حساب قيم وأخلاق رفيعة كإغاثة الملهوف، والشجاعة، والكرم، واحترام الجار. ألم تلاحظ أنّ شبابنا الآن في بعض الأحياء يسيرون هم والصبايا وكأننا في لندن أو باريس، ولم يبق إلاّ أن يقبّلوا بعضاً، ودون أيّ حساب للمارة؟!! كلّ هذا وغيره هو مقدّمة لطلائع ما سيغزونا، بحيث ننسلخ من جلدنا، ونأخذ بعادات وتقاليد تُشيعها أدمغة علماء يعرفون إلى أين يريدون أن نصل!!

aaalnaem@gmail.com